الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
هيثم بهنام بردى يعبر الواقع نحو جماليات السرد
الجمعة 02-11-2012
 
شاكر الانباري

استشراف عام لمجمل ما كتبه هيثم بهنام بردى، أكثر من خمس مجموعات قصص قصيرة جدا، يمكن أن يدلنا على مشتركات واضحة في منجزه السردي. من تلك المشتركات قضية اللغة، وهي لغة منتقاة، مفردة وبناء في جمل ومقاطع، وهي لغة تنث شاعرية، وكان ذلك هاجسا للكاتب اذ هو يرتفع بما هو يومي، وعبر تلك الشاعرية، الى مستويات ذهنية وغنائية تنحت للسرد تلك الشاعرية المتفردة. ولا تخلو قصة من قصص بردى من ذلك البناء اللغوي المنسوج بدراية، وكأنه صائغ ماهر للكلمات والجمل، حتى استحال ذلك، عبر التركيز والاستمرار والتجربة، الى أسلوب فني لا يمكن إغفاله. وظفت اللغة الشاعرية لهدف أبعد من الشغل على اللغة، أو لاستعراض البلاغة في الكتابة، وذلك الهدف، وهو أيضا من سمات تفرد نص بردى، هو دمج الخيال بالواقع، الأمر الذي يتطلب جهدا فنيا بالغا، ويتطلب احترافا ودراية في أسرار الكتابة. التدرج من الواقع الى الخيال ينبغي أن يبرر فنيا، كما تنص بديهيات الكتابة، وهذا ما يعتمده هيثم بواسطة اللغة، باعتبارها رافعة لمراوغات الوعي، وانتقالات الحدث، من صلادة الواقع الى احتمالية الفكر، ودروب الخيال. وهناك تمثلات لهذه الصفة في قصص عديدة في مجموعاته كلها، وأوضح تجل لهذا التواصل بين الواقع والخيال وجدناه في قصة الفنان والبحر، وتسامي المعادلة، وتوحد الصقر، وحب خرافي، وغير ذلك الكثير.

هناك أيضا ارتكاز على المفارقة، اذ يمكن لفكرة ذهنية أن تنسج في قصة عبر اكتساء ممنهج بلغة منتقاة، ويمكن للمفارقة أن تلتقط من حدث يومي بسيط، عابر، ليس سوى الفنان من يقدر على توسيعها وقراءة حكمتها، وتأبيدها تاليا في نص فني يسعى الى الخلود. والخلود هو ما يحاول بردى الوصول اليه، متوسلا الفن بدروبه المتعرجة، ومناوراته، وآفاقه الخفية والمباشرة، ما يكشف حقيقة أن الكاتب يبني نصه السردي بدراية وعقلانية، يتدخل فيه بيد ماهرة، واضعا أمام نفسه هذه النقطة بالذات، أي التقاط ما هو عابر لانتاج ما هو خالد في الزمن. ومن كل ذلك نجد أن نص بهنام بردى مليء بالتساؤلات، والأفكار، والفلسفة، كلها تناوش الوجود البشري، سواء كان ذلك الوجود لشخص مهمل، كأن يكون فلاحا أو راعيا أو جنديا أو مجنونا، أو كان وجودا لشخص واع يمتلك رؤيته الخاصة حول الحياة.

لا تنحصر المفارقات لدى الكاتب بالبشر فقط، يمكن رؤيتها في الحيوانات، والأمكنة الجامدة، والأنهار، والتضاريس الكونية من شمس، وقمر، ونجوم، وأضواء غامضة. كانت هناك مفارقات تخص الكلاب، والطيور، والمياه، والدروب، والبشر، كما في قصة حنين، ودعموصة، والهاجس، وغيرها. ومن أجل إقناع قارئه، وهو من ضرورات الكتابة السردية، يعمد هيثم الى مفردة الواقع، المكان، الكلمات، لكي يوهم العين بحقيقة ما يكتبه، وصدقه. اذ نجد قدرة عالية على الوصف، وصف تفاصيل الغرف، القرى، المدن، الغابات، الملابس، من أجل ادخال قارئه الى عالمه الفني، لكي يتقبل ما يقول به من حكمة أو مفارقة أو فلسفة حياة. والارتكاز على الواقع، من جانب آخر، يعطي السرد تلك المحلية المحببة، والمتفردة، سواء في المكان أو في التقاليد والطقوس والهواجس. هذه أيضا يمكن اعتبارها اضافة مهمة للسرد العراقي، حين يشتغل الكاتب على مساحة جغرافية لا يعرفها سواه، أو على مساحة انثروبولوجية هو جزء منها، أو تخلق من معايشتها منذ الطفولة وحتى البلوغ. فهي تكون مرتكزا وهوية، ونعلم حاجتنا الكبيرة الى أدب يمتلك هويته، رغم ما لهذه الكلمة من تعاريف متباينة، ومن مقاربات مختلفة.

نتاج هيثم يعطي نفسه بوضوح حين يعمد القارئ الى متابعة تحولات نصه، وتعدد ذلك النص، فهو في كل نص أو مجموعة قصصية يوزع جزءا من تجربته الخاصة، ومن رؤيته الفنية للكتابة، وحساسيته الشاملة تجاه المحيط الذي يكتب عنه. ولا غرابة في أنه لم يترك منطقة في روح الانسان الا حاول الولوج اليها. هناك الشيخوخة، همومها وهواجسها، وهناك العلاقة بين المرأة والرجل، وتعرجات الحب والألم والكره والانتقام، وهناك أنسنة الحيوانات والحساسية الفائقة عند البشر تجاه الجمال، والمرأة، والضوء، والكرم، والشجاعة، والحلم، وغريزة البقاء، والسيرة الذاتية. والكتابة لدى بردى هي عملية تطهير روحي، أليس لجوهر الدين المسيحي علاقة بهذه الرؤية؟، وعملية التطهير عدا أنها كانت تجري في أعماق الكاتب، الا أنها تنتقل بمهارة الى القارئ أيضا. وتتقطر لذة المواصلة في الابداع من تسامي عملية التطهر كحاجة روحية للكاتب قبل كل شيء. والتطهير آلية معقدة عند الفرد، أبسط إشكالها الاعتراف، كما في الطقسية المسيحية، لكنها في الكتابة تتطلب أكثر من أداة. ثمة البوح حين تتفجر أعماق الانسان بمكنوناته الخافية والسرية، ما يقربه من الطفولة البشرية، حيث لا يعود ما يخيف في الأعماق. وثمة البحث عن الجمال وكل ما هو جميل، في الأنثى وفي الطبيعة المتناغمة المنسجمة، حين لا ينفصل الانسان عن تلك الطبيعة ولا يعيش اغترابا عنها. وهناك المفردة المتوهجة، السلسة، المنتظمة في نسيج لغوي يفتح الفضاءات الرحبة أمام العقل والخيال. وثمة المشاعر الانسانية النبيلة من كرم وشجاعة ووفاء وعشق، وهي بمجموعها هدف لكل شخص.

والتطهر يأتي أيضا من الذكريات الناعمة، التي تمنح الكائن عمقا حياتيا، فاذا هو صندوق أسرار. وعرض شخصيات ذات بوح، وذكريات، ومشاعر نبيلة، آلية لتوسيع التجربة البشرية، وآلية ضرورية لكل فرد يعتمدها للوصول الى انسانيته المنشودة. فليس من الهين اقناع القارئ بحريته الداخلية، أو جدوى المعرفة كما في قصة شبح يموت في مكتبة أو قصة عزلة أنكيدو. جدوى الفن هو تطهير النفس البشرية من أدرانها، كالكره والجشع والكذب والبلاهة والكسل والانغلاق، وهذا ما حاوله هيثم بهنام بردى في كتابته كلها، وهذا ما نجح فيه على درجة عالية من الفرادة.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
بحضور الجالية العراقية.. نصب تذكاري للجواهري يضيف بهجة لعاصمة التشيك
صالات القمار.. بعضها لغسيل الأموال وأخرى تتبع لجهات متنفذة
المالكي يبحث عن "نهاية سعيدة".. ولاية ثالثة قبل تقاعده
في كردستان العراق مقابر منسية لنساء ضحايا جرائم العنف الأسري
في يوم مكافحة المخدرات.. بيان عراقي عن "المتاجرين الدوليين والمحليين"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة