يعيد كثير من منتقدي الممارسة النقدية العربية في الوقت الراهن ضعف هذه الممارسة إلى غلبة الاتجاهات الشكلية في النقد خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتحول النقد إلى نوع من التدريبات العملية على بعض المدارس الشكلية الوافدة إلينا من تيارات النقد الغربي المعاصر، متسائلين عمّا يمكن أن يضيفه ذلك إلى الممارسة النقدية العربية. كما يلوم آخرون المؤسسة الأكاديمية العربية التي لا يخرج من بين ظهرانيها نقاد يثرون الحياة الثقافية العربية بسبب غلبة الممارسة الروتينية الشكلية، وعدم إعداد الطلبة إعداداً أكاديمياً نقدياً يجعل منهم نقاداًَ محتملين في المستقبل.
كل هذا صحيح في ما يخص الأثر السلبي للمدارس الشكلية، التي تساوي بين النصوص، المتميز منها والرديء، كما أنها تُحوّل النقد إلى نوع من الوصف والإحصاء والرصد وإنشاء الرسومات البيانية، والامتناع عن إصدار حكم قيمة على الأعمال الأدبية. كما أن الحديث عن ضعف دور الجامعة في إعداد نقاد للمستقبل شديد الأهمية في وقت تحولت الجامعة العربية إلى التعليم الكمّي مهملة الكيف والنوعية رفيعة المستوى من التعليم الأكاديمي.
أزمة النقد العربي تبدو لي مقيمة في مكان آخر. إن ما ذكرناه سابقاً يصف مظاهر الأزمة، والنتائج الكارثية الناشئة عنها، لكنه لا يمثل أسبابها التي تتصل بحاضر العرب وفواتهم الحضاري وغياب مشروع أو مشاريع عربية تضعهم في مصاف الأمم الكبيرة. فالنقد بخاصة، والثقافة بعامة، تعبير عن رؤية للعالم، عن تفكّر بالإنسان وموضعه في العالم، وليست مجرد ممارسة تقنية الطابع. والعرب في هذا الزمان، شئنا أم أبينا، ناقلون عن غيرهم، فهم يعجبون بما تنتجه عقول غيرهم، فيستحسنون هذا التيار النقدي تارة ويستحسنون غيره تارة أخرى. وهو ما يؤدي إلى عدم توطّن الأفكار والنظريات وعدم ملاءمتها للتربة الثقافية العربية، ومناسبتها للحاجات التي عادة ما تبرر الأخذ عن الآخرين وتعديل ما نأخذه عنهم ليلائم حاجاتنا. لا يتصل ذلك بانقطاع الناقد العربي عن ماضيه وتراثه وانصرافه إلى حاضر الآخر ومنجزه الثقافي والفكري والفلسفي، بل إلى حيرته، وكذلك إلى أزمة الهوية التي تطحنه. فالنقل عن التراث يتساوى مع النقل عن الآخر، كلاهما طمس لهوية الذات وتعطيل لممارستها المبدعة المتميزة، وتكرار ببغاوي لما قاله الغير من دون إضافة أو تعديل.
السبب الفعلي لضعف الممارسة النقدية العربية يكمن في ضعف الوجود العربي ذاته، في غياب الديموقراطية وترسخ بنية التسلط العربية، ما ينشأ عنه انهيار للمؤسسات وضعف في التعليم، بشقيه الثانوي والجامعي، لأن المهم بالنسبة للدولة التسلطية هو أن تهيمن وتحكم وترسخ أساسات استبدادها التي تعتمد على التحالفات المذهبية والطائفية والجهوية والإقليمية، ما يعود بالويل على المجتمع والتعليم والمعرفة والثقافة، ويضع الدولة العربية في مقام الدول الفاشلة.
هنا تقيم أزمة النقد، وأزمات التعليم والثقافة والعلاقات الاجتماعية، وفساد السياسة، وفشل الاقتصاد الذي ينخره الفساد والمحسوبية وتركز الثروة في أيدي المقربين من السلطة. في غياب الديموقراطية والشفافية يصعب أن تتفتح العقول وتنتج أفكاراً كبيرة، وتمارس النقد من دون خوف أو رهبة.
ثمة أسباب فرعية كثيرة لأزمة النقد العربي في الوقت الراهن، كضعف الإعلام وثورة تكنولوجيا المعلومات التي همشت دور النقاد ودور الصفحات الثقافية في الصحف، وأدت إلى تراجع توزيع المجلات الأدبية، وجعلت المُدوّنات والمواقع والمنتديات الإلكترونية مرجعيات للقراء، كما جعلت هذه الأشكال التواصلية حكماً على مستوى الكتب والأشكال الفنية بدلاً من النقاد والباحثين المتخصصين. لكن هذه الأسباب تظل فرعية، لأن المجتمع غير الشفاف، المجتمع الذي تسوده المراتبيات الحادة ويقمع أفراده ويقزم عقولهم وأرواحهم، لا ينتج إبداعاً كبيراً أو نقداً أصيلاً.