ي أشهر صورة على الإطلاق للشاعر الكبير معروف الرصافي وقد لبس عباءة سوداء وعقالا عربيا فبدا كمختار محلة طاعن في السن بحاجبيه المرفوعين وفمه المرسوم بكآبة حادة ولحيته غير المشذبة..هذا هو الرصافي الذي جلس بانحناءة بارزة وكأنه يريد ان نفهم من صورته انه راحل او على وشك الرحيل.
لزمن طويل اعجبت بهذه الصورة رغم اني لم اعرف من هو مصورها..؟واين التقطت..؟وفي أي مكان..؟كان الشاعر بكامل هيئته يبدو لي رجلا خالدا جلس في ذلك المكان الذي لا يبدو انه استوديو خاص بالتصوير وانما فضاء غير واضح الابعاد والتقطت يدان بارعتان حضور الشاعر بذلك الوضع والهيئة معا.
فيما بعد عرفت وانا اقرا في كتاب رفعة الجادرجي صورة اب تفاصيل مهمة اوضحت لي ما كان غامضا وملتبسا.يذكر مؤلف الكتاب ان الرصافي كان يزور بيت كامل الجادرجي السياسي المعروف عدة مرات في الاسبوع.وان والد رفعة الجادرجي كان ينسخ كتاب الرصافي الشخصية المحمدية ويتابع الاخير دقة النسخ من المخطوطة الاصلية.وفي يوم من الايام صور كامل الجادرجي الرصافي وهو بلباسه العربي في طارمة خلف البيت ثم نشرت الصورة في جريدة الاهالي بعد موت الرصافي وهي اول صورة تنشر لشخصية عراقية واخر صورة ايضا لان كامل الجادرجي كان لا يريد ان ينشر صورة احد بمن فيهم صورة الملك.
حين عرفت هذه المعلومات تاملت الصورة مرة اخرى.ليس هناك مجال للقول الطويل في صورة فوتوغرافية اخذت لشاعر من اجل الذكرى ليس الا.اذ لا بد ان يخلد كامل الجادرجي وهو شخصية محبة جدا للتصوير الشاعر الكبير بصورة.لم يذكر المؤلف اية ملاحظات صغيرة وجهها ابوه للرصافي طالبا منه مثلا ان يعدل من جلسته مرة او مرتين،وكأن الصورة التقطت بدافع طبيعي جدا وبلا اية مقدمات.لم يتطرق الابن الى هذه التفاصيل.
وفي المحصلة النهائية صور الرصافي بزي عادي جدا ولم يكن يخطر ببال الرصافي ولا مصوره ان الصورة ستاخذ كل هذه المساحة من الشهرة.وقد يقال انه كان من المستحسن ان تتم مراعاة النظرة العامة بعض الشيء فيجلس الرصافي جلسة اخرى حالما محدقا في فراغ عميق واضعا يده تحت ذقنه كما يفعل كثير من الاغبياء الذي يعتقدون ان الجسد يتحول الى صورة فنية بمجرد ان نفرغه في قالب جاهز تطغى عليه نظرة حالمة الى جهة مجهولة لا تمت الى عالمنا بصلة.
اعترف ان جلوس الرصافي بتلك الطريقة في ذلك المكان غير المحدد بزيه العربي جعلتني اتساءل عن موقع تلك الصورة في حيز الثقافة العراقية،وما تعكسه من ايحاء قوي للمتامل.لكن هل تعكس صورة فوتوغرافية أي ايحاء وهي صورة التقطت من اجل الذكرى او التاريخ الادبي على ابعد تقدير..؟
صورة في الثقافة
ان ما هو جوهري في السؤال الذي طرحته قبل قليل هو:ما موقع الصورة في حيز اسمه الثقافة العراقية.وانا اعتقد ان البحث عن جذور قصة ما او صورة نظنها عابرة في حياة شاعر من شعرائنا هو ما ينبغي ان نركز عليه لاننا قد نحدد بنقدنا هذا تخطيط ملامح خاصة بنا وتميزنا عن باقي البشر ممن وصفوا انفسهم بصورة عميقة لفتت انتباهنا.
لذا لا بد من طرح سؤال فيه استفزاز كبير لكل مثقفينا في هذا الزمن والسؤال هو:لو كان اوكتافيو باز مولودا هنا على هذه الارض فكيف كان سيكتب كتابه الرائع متاهة الوحدة..؟لا شك انه سيفكر منقبا عن سماتنا التي تحتاج الى تأمل وتخيل مرهفين جدا..لكن ما الذي سيقوله لو انه كتب متاهة وحدته هنا..؟ اظن انه سيتناول مثلا غياب الفترة الرومانسية بتنظيرها الغربي، ولعله سيوضح تأثير الغياب الرومانسي على الادب عندنا.
لكن كيف سيتحدث اوكتافيو باز عن صورة الرصافي لا سيما انه تناول مثقفي زمنه ورسم ملامحهم بدقة مبينا خبرتهم الذاتية وقد سكنوا هذا العالم.
لا اريد الاعتقاد ان الرصافي حجز في اطار صورة قديمة.ففي شجرة الحياة او شجرة الكون بمعنى اكثر رهافة ستكون صورة الرصافي ذرة متناهية الصغر في لحم هذه الحياة وستكون غصنا في شجرة ثقافتنا.
سرقات الزمن
قد نحتاج الى تدريب طويل لنفسح المجال لانفسنا كي ندرك اننا معلقون في فضاء الوجود وان الزمن يدفعنا شيئا فشيئا الى حد فاصل لا نستطيع الهروب منه.وتعد الصورة بهذا المعنى احدى وسائلنا لتثبيت سرقات الزمن التي يقوم بها.اننا نريد ان نخدش جريان الدقائق بوقفتنا في صورة وكأنما نصرخ نحن هنا.وهذه المحاولة هي بالتأكيد فرصة جيدة للكذب لأننا نعرف ان لا شيء يصمد امام حكمة الزمن الطويلة.
في صورة الرصافي تلك شيء ملفت للنظر لانه لم يحدث بسبب طبيعته الخاصة كما نحاول ان نفهم اشياء عالمنا التي نراها.في الصورة توجد قوة التغيير الفني للشعراء الرواد كما يمكن ان نحس بهمس الجيل الستيني وهو يبني قناعات جمالية غير مالوفة عندنا في السابق.قد يقال انني ابالغ كثيرا في ما قلت وان كتابة صفحتين في الحديث عن صورة لشاعر يعد عملا تخريبيا وحشوا غير مبرر.في الواقع ان الفكرة التي اريد وضعها بكل خطوطها لا تفسر فقط موقع صورة الرصافي كصورة تخص التاريخ فقط وانما تخص روح الفكرة التي لا بد من شرحها.انا افضل القول ان مشروع الثقافة العراقية يعبر عن نفسه باشكال مختلفة وبادوات كثيرة.في القصة والقصيدة والصورة والموقف الاخلاقي ايضا.وعلينا ان نكتشف في كل تعبير او موقف درجة اقترابه من روح الفكرة الحية التي يتالف منها مشروعنا الثقافي.لكن ملامح ذاك المشروع غير واضحة،من هنا نجد ان صورة الرصافي تخصه هو كشخص وتخص تاريخه بلا ادنى شك.وهذا جزء من غبش نظرتنا السطحية للاشياء كلها في هذا العالم.ومع كل ما قلت فان في لحظة الكشف عن طين الفكرة الحية ونبذ الفكرة الميتة التي لا تمت الى ثقافتنا الحقيقية بصلة سندرك ان الرصافي بصورته تلك هو موقف يزيد من اشعاع الجمال الخاص بنا.
ان صورة الرصافي تكشف عن اهم ميزة في المشروع الثقافي العراقي واعني بتلك الميزة فصل الشكل عن الجوهر بصورة عامة.
وهذه الميزة هي القانون الجمالي الذي ميز قصيدة الشعر الحر وميز ايضا سعي الجيل الستيني نحو تأسيس وعي جمالي خاص بنا يميزنا.ولعلنا ندرك في هذا القانون كذلك الدور الاخلاقي الذي يجب ان نمارسه في حياتنا.ان سر جمال صورة ذلك الشاعر ينبع من حقيقة ان الجوهر يبرز قويا في زي الشاعر وملامحه كلها.فالشاعر كردي لكنه يظهر بزي عربي وبشكل مختار لمحلة في منطقة شعبية من مناطق بغداد.عند هذه النقطة نجد قوة الجذب التي تميز سر الثقافة الذي لا نعرف تفاصيله حتى اللحظة. فالصورة تلتقي مع كل محاولة تنهي طغيان الشكل اذا قتلت براءة الجوهر.
ولدينا امثلة في الادب والسياسة والدين عن جماليات فصل الشكل عن الجوهر وصورة الرصافي احدى اجمل هذه الامثلة.
ما يسترده الفوتوغراف صورة شهيرة للرصافي
