الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
النحت بالكلمات بروفايل لريح جواد الحطاب
الجمعة 11-01-2013
 
عبدالرزاق الربيعي

تعلمت من   الشاعر جواد الحطاب  منذ أن عرفته   في أوائل الثمانينيات  أن الكتابة الشعرية عملية نحت، وأن  القلم بيد  الشاعر إزميل يحفر به جسد الجملة  الشعرية ويزيل عنها الزوائد ليقف الشعر الخالص بكامل فتنته، وحين سألته ذات يوم عن مراحل كتابته للقصيدة اصطحبني الى منزله  وكان في منطقة البياع،  وأراني دفترا من فئة المئة ورقة وقال: هذا الدفتر جواب على سؤالك، حين قلبته رأيت مقاطع وجملا من قصيدته " تماثيل" تلك القصيدة التي رأى الشاعر فضل خلف جبر أن الحطاب اختط بها لشعريته أفقا جديدا حين نشرها بمجلة "أسفار" أواسط الثمانينيات، وكان ذلك الدفتر هو مسودات القصيدة ومحاولاته للاشتغال عليها فرأيت كيف نمت وكبرت وتفرعت ثم كيف قام بتشذيب تلك الأغصان مثل فلاح بارع فاختصر تلك المائة بورقتين فقط في نهاية الدفتر! فعرفت منذ ذلك الحين أن القصيدة اشتغال وجهد وعرق وليست دفقة سانحة ندونها على الورق واليوم وأنا أتصفح كتابه الشعري الجديد "بروفايل للريح ..

رسم جانبي للمطر" الصادر عن "شرق غرب للنشر" - بيروت  تذكرت تلك الجملة الذهبية:الشعر عمليـة نحــت" ليس إلا..

والكتاب الذي هو "تنويعات على نصب الحرية" كما يشير عنوانه الفرعي   جاء ليكون عملية نحت موازية للنصب  تنطلق من المنحوتة لتضع منحوتة شعرية جديدة بكثير من الجهد، فالحطاب  في كتابه هذا الذي تبلغ عدد صفحاته  83   احتلت صور منحوتات جواد سليم نصفها، في توليفة رائعة بين المقاطع والصور والإخراج الراقي الذي ظهر به الكتاب لينصف التجربة وليظهر جمالياتها وهذه حسنة تحسب لدار "شرق غرب للنشر".

وقد أنجز الحطاب مشروعه هذا،  الخفيف وزنا،  الثقيل قيمة فنية، خلال شهور من الاشتغال،  إذ ذكر  في إهدائه لنسختي من الكتاب"  عبر أكثر من سنة ونصف وأنا أحاور تكوينات جواد سليم مع المتظاهرين في ساحة التحرير وسط الباعة المتجولين، جالسا على دكات شارع السعدون حيث المكتبات، وقاطعا جسر الجمهورية سيرا على الأقدام حتى انتهيت الى حماقتي هذه، حماقتي الأعلى بعيدا عن مقترحات جواد سليم نفسه لعمله وبعيدا عن تأويل جبرا ابراهيم جبرا ..

سترى أنني أنزلت التماثيل من مرمرها، وأدرجتها بين الناس في واقعهم وواقعها الجديد"، وهكذا أنزل تلك التماثيل  من أعلى النصب وضخ فيها حياة جديدة وألبسها ثياب الكلمات:

حبة دمع واحدة

من عين أم ...

كافية لتعقيم الملائكة "

وخاض المغامرة الشعرية منطلقا من مساحة   التأويل التي منحها لنفسه وهو يخوض هذه التجربة التي وصفها بـ"المغامرة" بقوله في مقدمة الكتاب " أنا جواد الحطاب قررت أن أغامر مع جواد سليم وأكتب عن تكويناته الراسية في ساحة التحرير قد تتطابق القصائد مع رؤية النحات، ومن المؤكد إنها ستختلف ..فالإبداع بكل ثيماته ليس سوى مغامرة تحتمل التأويلات "

في رسم "بروفايله "للريح يلجأ لشعرية المقطع والجملة الشعرية فيبعث رسائله الشعرية على شكل برقيات مذكرا إيانا بشكل  قصيدة "الهايكو" اليابانية نافخا فيها روحا عراقية :

تركوا العراق في غرفة الإنعاش

وانشغلوا بالقسام الشرعي

على موائد عمرنا..

جميع فواكه العبوات

ويرسب أولادنا في الدرس

لايعرفون إعراب المفخخات "

ويقول في مقطع آخر:

أهبط من قاعي

لمنخفض السماء

وأقود قطيع الأرواح

لكرنفال مواكب الموتى

ياقريني

لاتترك المسحاة تفتح القشرة

بقليل من الهواء الخام

تعلو الطواطم

فمن سيحمي عفة الأحلام

في القيلولة الوطنية؟؟؟

ومن تراكم تلك الجمل والمقاطع تتشكل ملامح منحوتته الشعرية التي جاءت على هيئة قصيدة واحدة بدون عناوين داخلية لأنه أوكل هذا الدور للصورة كما يشير ص 6 وتنساب المقاطع بكل تلقائية من خلال نفس شعري لا تنقصه السخرية والمفارقة :

حين أموت

ادفنوا معي بطارية ضوئية

فأنا أخاف من الظلام

أخيرا

أخيرا أيتها الفالة

تمكنت المجندات

من أرحام آبائنا

ويلجأ للهامش لتفسير كلمة" الفالة" آلة الصيد المستعملة في أرياف العراق والتي يعود تاريخها الى صيادي الأسماك السومريين وقد استخدمها رجال العشائر سلاحا في ثورتهم ضد الاستعمار البريطاني " كما يشير في هامش ص 21 وفي الجملة الأخيرة مربط فرس الحطاب فالكتاب جاء معادلا شعريا للاحتجاجات التي قام بها شباب خرجوا  بمظاهرات في ساحة التحرير تحت نصب الحرية مطالبة  بتعديل الأوضاع بعد وصول رياح "الربيع العربي" الى العراق  في العام الفائت رغم أن الشاعر لا يمر على ذكر الساحة الا ثلاث مرات  الأولى ص 43 بقوله :

أيتها المرأة

لاترمي القشّة التي كنستها من ساحة التحرير

فهي من ذريّتي

والثانية ص 65 :

محراث خفيّ

يمتدّ من ظهره لقرميد"ساحة التحرير"

والثالثة ص 78:

يسيل البياض من خلل التكوينات

ويتأدم رغيفه من طيور (ساحة التحرير)

وصار المكان موعدا لكل من يحمل مطلبا وكان الشاعر يراقب ويثري مدونته الشعرية بالملاحظات لينقل الحدث العابر من طين الواقع  الى مجرة الفن ليحوك  أسطورته الخاصة، ويكثر من وضع الهوامش التي تعرض تفاصيل مضيئة من بطولات سطرها العراقيون في تاريخهم  تذكيرا بها  واستحضارا لتلك المواقف فحين يقول"

يتسلل من كتب التاريخ رجال الدين النجفيون

(الجذر التربيعي لعشائر زوبع)

لاتنقصهم الأسطورة

مكوار أعزل

يقرّب (في صينية مدفع) نجوما للفالات

ويتكوكب في الأبدية

يذكر في الهامش الواقعة التالية" أتلف الضباط البريطانيون المنهزمون (صينية المدفع) الذي انتزعه الثوار العراقيون منهم في معارك الكوفة، فماكان من الثوار الا إرسال أحدهم إلى بغداد وسرقة صينية بديلة من مخازن الجيش البريطاني الموجودة في العاصمة في حادثة بطولية تذكرها وقائع ثورة العشرين"

والواضح إن الحطاب لجأ لتلك الهوامش لينقّي نصه من الخطاب التحريضي الذي ارتفع في المكان الملهم" ساحة التحرير" تاركا لجناحي كلماته حرية التحليق في فضاءات الفن والجمال دون أن يترك الحشود الغاضبة وبذلك يحقق طرفي المعادلة :الموقف من خلال توثيق الحدث، والجمال فما"يريد الشاعر تحقيقه :الانتشاء من خلال إيصال القارئ الى ذروة اللذة الشعرية" كما يستنتج الشاعر فضل خلف جبر في دراسته المهمة التي ألحقها بمدونة شعرية تشكل نقطة مضيئة في ميدان  التجريب الذي يظل ديدن الحطاب في عزفه الشعري المتفرد .

*شاعر عراقي مقيم في سلطنة عمان

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
بحضور الجالية العراقية.. نصب تذكاري للجواهري يضيف بهجة لعاصمة التشيك
صالات القمار.. بعضها لغسيل الأموال وأخرى تتبع لجهات متنفذة
المالكي يبحث عن "نهاية سعيدة".. ولاية ثالثة قبل تقاعده
في كردستان العراق مقابر منسية لنساء ضحايا جرائم العنف الأسري
في يوم مكافحة المخدرات.. بيان عراقي عن "المتاجرين الدوليين والمحليين"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة