الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
منجم الحدث في الرواية الجديدة
الأحد 13-01-2013
 
شاكر الأنباري

المكان لا ينفصل عن الحدث الروائي، وهو أيضاً جزء مهم من خارطة أية شخصية، إذ أن المكان ليس ما هو مادي فقط، أي شوارع وبنايات وأسماء مدن أو مناطق. انه تاريخ، وألوان، وروائح، وبصمات من عاشوا فيه وقصصهم. فضلاً عن ذلك هناك أهمية فائقة لاكسسوارات المكان، وذلك من أجل إضفاء المصداقية على الأحداث، وتلوينها بسمات واقعية، تشحن مخيلة القارئ بدلالات ملموسة، وإيحاءات تعود إلى بنى المجتمع. فطوال عقود ظل نزف الهجرة والنفي والتهجير والعودة ثم الهجرة ثانية مستمراً، كما لو كان كابوساً لا ينتهي. في ذلك الكابوس ملايين الشخصيات، وهذا يعني ملايين القصص والأحداث والسلوكيات، والأمكنة المتنوعة.

العراقيون عاشوا في السهل والجبل والصحراء والهور، وعاشوا في إيران وسورية والأردن ومصر وباكستان، ثم تشتتوا إلى أوروبا وأميركا اللاتينية والشمالية وأستراليا، وهم في كل ذلك يجسدون بانوراما المكان والزمان والتنوع. ان التحولات التي عاشها العراق أصبحت هاجسا لمعظم الروائيين، وهذا له علاقة بشبه زوال العالم القديم، اذ لم يبق الا في الذاكرة.

ومن هنا، يمكن الجزم بأن  الرواية المكتوبة بطريقة غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، ومهدي عيسى الصقر، لم تعد موجودة، ببساطة لأن المجتمع الذي أنتج هكذا نمط من الشخصيات، والهموم، والحكايات، تغير نوعيا، والتجربة الروائية اتسعت في الأساليب والمضامين والتجارب.

ورغم خلو الساحة اليوم من تجارب مكتملة، وهذا طبيعي، الا أن كتابة الرواية غزت رقعة واسعة من المبدعين، وخرجت في العقدين الأخيرين أسماء مهمة أبدعت روايات ذات نفس جديد في الكتابة. ولا ينبغي نسيان حقيقة أن وقائع ما بعد سقوط النظام ما زالت طرية، وقريبة، بل ويعيشها المثقفون حتى اللحظة، وهذا ما يؤجل الكتابة عنها في بعض الأحيان، عدا عن الظروف الحياتية الصعبة، التي يعيشها الكتاب، وعدم الاستقرار النفسي والذهني، وتمزق المكان واهتزاز الفرد في النسيج المجتمعي. كل ذلك ربما أعاق خروج موجة ناجزة، متواصلة، من الكتابات. وعادة ما تلتفت الرواية إلى الماضي وهذا أمر بديهي، فهي تعالج تجربة حدثت، وإذا ما استبعدنا روايات الخيال العلمي فغالبية الروايات تعالج تجربة تحققت، وانتهت.

فتناول الماضي يهيئ للكاتب درجة معينة من الوضوح في تطوير الشخصيات وترتيب الحدث، خاصة الروايات التي تحركت ضمن مكان واضح السمات وزمان محدد. الكاتب يستعيد أحداثاً وتجارب قد يكون عاشها سابقا أو سمع عنها أو قرأ، الأمر الذي يجعل من التنبؤ أو قراءة المستقبل قضية ليست لازمة ولا ضرورية. وهذا ينطبق على الرواية العربية، رغم أن ثمة ملاحظة يمكن ادراجها هنا تخص علاقة المثقف عموما بواقعه. فعلى مدار قرن أوأكثر ظل المثقف العربي، وحتى العراقي، بشكل عام، يشكل نخبة في محيطه، أمام الأمية الطاغية في المجتمع. هذه النخبوية قللت من استشعار ما يجري تحت سطح الواقع، وهنا أخص الانتفاضات المفاجئة، والسريعة في الدول العربية. وهي رغم ما تبدو أنها مفاجئة لكنها جاءت بعد مقدمات طويلة من القمع، والتهميش، ومصادرة حقوق الفرد البسيط، أي كان ثمة التباس في العلاقة بين المثقف والمجتمع، من أسبابه اغتراب المثقف عن بيئته سياسيا، واجتماعيا، وفكرياً، وطقوسياً.

في فترة قصيرة بعد الهجرة الواسعة للمثقفين العراقيين، وتوزعهم في بلدان المهجر، سواء عربيا أو أوروبيا، ظل المبدعون يعتمدون على خزينهم من ذكريات البلد، في القصة أو الرواية أو الشعر. وهذا جاء بعد استقرارهم وتأملهم في دراما البلد. كانت موجة شاملة في الابداع، وضعت الحدث العراقي على طاولة التشريح، وهو أمر مفهوم، وله علاقة بحرية التعبير التي منحت لهم بعد خروجهم من الوطن. كانوا يحاولون تقييم كل ما عاشوه سابقا: الطفولة، السياسة، الحكايات الفولكلورية، الهواجس الاجتماعية التي عاشوها من قمع جنسي، ولغوي، وطائفي، وقومي، وحزبي. لكن بعد طول الاقامة، وامتصاص المكان الجديد، والاندراج في هموم مجتمع آخر، بدأ الروائي يلتفت إلى بيئة المنفى الجديدة، وهناك أعمال روائية زاوجت بين المكان القديم والجديد، رغم أن هذه الظاهرة لم تتسع كثيرا. وأعتقد أن روايات أخرى ستكتب عن الوجود العراقي في المنفى، أو عن البيئات التي عاشوا فيها، اذا لم يكن الجيل الأول من المغتربين فالجيل الثاني بالتأكيد، وربما بلغة أخرى غير العربية.

لقد خرج المبدع من شرنقة المحلية، واتسع أفقه لكي يشمل العالم برمته، وهذا ما دفع بالرواية إلى بلوغ آفاق عالمية، من جهة الأساليب، والرؤى الفنية، ومعالجات المادة الأولية للرواية. تصل الرواية العربية، قليلا قليلا، إلى خانة النضوج، والخصوصية، وهذا ما دفع بدور الترجمة الأجنبية إلى ترجمة روايات عربية وعراقية إلى اللغات الأخرى، الأوروبية تحديدا. لم نعد نتحدث عن نمط نجيب محفوظ أو حنا مينه أو عبد الرحمن منيف أو غائب طعمة فرمان، إنما نحن أمام أساليب لا حصر لها، استفادت من السينما، والتشكيل، واللاوعي، والأسطورة، والحكايات الشعبية، اضافة إلى الأساليب الأوروبية الحديثة، كتيار الشعور، والشيئية، والواقعية السحرية، وهذا ما أوصل الفن الروائي إلى مناخات جديدة لم تكن مألوفة حتى عقود قليلة ماضية.

إن إشكالية الكتابة بين من يعيش في الداخل ومن يعيش في الخارج ما زالت قائمة على صعيد المسار الروائي. والحقيقة هناك رواية جيدة وأخرى سيئة، سواء كتبت في داخل العراق أو خارجه. لكن الكاتب في الخارج ربما أتيحت له حرية أكبر من الكاتب في الداخل، ومادة أولية أثرى، نتيجة الاحتكاك الحضاري، واستقرار روحي ومادي لكي يتفرغ للكتابة، لكن كل هذه المواصفات ليست عاملاً رئيسا لكتابة رواية ناجحة، اذا ما افتقدت الموهبة، والخبرة الفنية، والتجربة الحقيقية. رأينا روايات كتبها عراقيون، وعرب، عاشوا في الخارج لم تجئ بالمستوى المطلوب، ولم تنفع الحرية المطلقة لكي توصلهم إلى الاجادة في الانجاز. وهذا أيضاً يسري على من عاش في الداخل. ويظل للتجربة الواسعة، والثقافة الموسوعية، دور فاعل في انتاج عمل فني مهم ومقنع. الروايات التي كتبت في الخارج، والتي كتبت في الداخل، معظمها ارتكزت على تيمات عراقية: الشخصيات، الأمكنة، الحوارات، الرؤى، المواضيع الملحة، القلق اليومي، خصوصاًَ أن الموضوعة المندغمة بالتاريخ القريب، الحروب، الهجرات، القمع، التابو الاجتماعي، كلها مشتركات لدى الجميع، بغض النظر عن مكان الاقامة. من هنا يمكن القول، مرة ثانية، ان هناك رواية سيئة وأخرى جيدة.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
بحضور الجالية العراقية.. نصب تذكاري للجواهري يضيف بهجة لعاصمة التشيك
صالات القمار.. بعضها لغسيل الأموال وأخرى تتبع لجهات متنفذة
المالكي يبحث عن "نهاية سعيدة".. ولاية ثالثة قبل تقاعده
في كردستان العراق مقابر منسية لنساء ضحايا جرائم العنف الأسري
في يوم مكافحة المخدرات.. بيان عراقي عن "المتاجرين الدوليين والمحليين"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة