يمر العراق منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة بأزمة سياسية-اقتصادية-اجتماعية وأمنية-عسكرية وبيئية متفاقمة، رغم تصور البعض بأنها على وشك الحل نتيجة التغيير الذي حصل بمنصب رئيس الوزراء حيث أمكن التخلص من نوري المالكي وحل محله حيدر العبادي ووعود الأخير بإجراء عملية إصلاح على حزم متتالية. وما أن بدأت الحزمة الأولى حتى تعثرت وجمد الإصلاح بل وتراجع في بعض فقرات الحزمة. والتساؤل الذي يراود الكثير من الناس عراقيين وعرب وأجانب هو: ما هي الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة الشاملة والمستفحلة، رغم الظروف التي توفرت نسبياً بعد إسقاط الدكتاتورية لتجاوز الماضي والبدء ببناء دولة مدنية ديمقراطية علمانية حديثة ودستور ديمقراطي ومجتمع مدني ديمقراطي بالاستفادة من تجارب العراق المريرة في ظل دولة قومية يمينية شوفينية وطائفية مارست الاستبداد والقسوة والحروب الداخلية والخارجية وعرضت الشعب للسجون والتعذيب والموت والحصار الاقتصادي والجوع والحرمان والهجرة نحو الخارج.
أزمة العراق الشاملة الراهنة هي استمرار لأزمة النظام السابق مع إضافات عوامل أخرى مريعة ساهمت في تعقيدها وتشابكها والتي يمكن تكثيف أبرزها في الملاحظات التالية :
1. إن إسقاط النظام الاستبدادي لم يحصل على أيدي الأحزاب والقوى الوطنية العراقية، بل تم على أيدي قوات عسكرية أجنبية ذات تاريخ استعماري قديم وأساليب استعمارية حديثة، ولها مصالحها وأهدافها الإستراتيجية بالعراق والمنطقة والتي تختلف جذرياً عن أهداف الشعب العراقي ومصالحه. وهذا يعني من الناحية الموضوعية: عدم نضوج العامل الذاتي (أي قوى الشعب) لتحقيق إسقاط الدكتاتوري الغاشمة محلياً وإقامة النظام الذي يرتأيه، في حين كان الظرف الموضوعي لإسقاط الدكتاتورية ناضجاً تماماً. وهذا يعني بأن الدول التي ساهمت في إسقاط النظام استطاعت التحكم بالنظام السياسي الذي تريد إقامته لتحقق مصالحها من وليس مصالح الشعب الحر.
2. ولهذا الغرض تقدمت الولايات المتحدة وبريطانيا بطلب إلى مجلس الأمن الدولي لفرض الاحتلال الجائر على العراق، وكان لها ما أرادت فأقامت النظام السياسي الطائفي في حكم البلاد وكرست المحاصصة الطائفية والأثنية في بنية الدولة والسلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وامتداداتها في جميع أرجاء الدولة العراقية.
3. إن وجود مثل هذا النظام الطائفي السياسي في بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب مثل العراق قاد الحكام الطائفيون الجدد إلى ممارسة عمليات انتقام وإقصاء وتهميش وتمييز وإلى إثارة الصراعات بين القوى والأحزاب السياسية الدينية والمذهبية على نحو خاص ونقلها إلى الأوساط الشعبية التي أدت إلى العواقب الوخيمة التي عرفها العراق خلال الفترة بين 2003-2015 والتي ما تزال جارية حتى الآن.
4. ومثل هذه الدولة الطائفية والأثنية حفزت منذ البدء على تدخل إقليمي فظ ومباشر، إلى جانب التدخل الدولي المباشر من جانب الدول الغربية عموماً، في الشؤون الداخلية للدولة العراقية. وبالتالي فالصراع لم يعد عراقياً بحتاً بل وإقليمياً ودولياً في آن، مما زاد الأوضاع سوءاً وتعقيداً. وكان لإيران والسعودية وقطر وتركيا وبقية دول الخليج الدور المباشر في هذا التدخل إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا.
5. إن الفوضى المريعة المقررة سلفاً من جانب الإدارة الأمريكية التي سادت العراق بعد إسقاط الدكتاتورية، ومن ثم فرض النظام السياسي الطائفي والأثني، مع وجود المحتلين وحتى بعد خروجهم، بدأت الصراعات الفعلية تتفاقم يوماً بعد آخر بين أتباع الأحزاب المذهبية الطائفية الشيعية والسنية التي كانت تصارع من أجل قيادة السلطة، التي سلمها المحتلون بيد الأحزاب والقوى الشيعية، فنشأت بذلك الأرضية الخصبة والصالحة لبروز ميليشيات سنية وشيعية مسلحة وقوى عربية إرهابية (القاعدة) وقوى إيرانية إرهابية لتبدأ بممارسة عمليات إرهابية متبادلة والقتل على الهوية، إضافة إلى قتل وتهجير مشترك لأتباع الديانة المسيحية والمندائية من مناطق العراق المختلفة، وكذلك ضد الإيزيديين بمحافظة نينوى. وشارك أيتام حزب البعث وصدام حسين في هذه الموجة الإرهابية .
6. وإذا كان الفساد قد وجد بالعراق بشكل واسع في ظل النظام البعثي الدكتاتوري، فأنه وفي ظل الاحتلال والنظام الطائفي والأثني، أصبح نظاماً سائداً ومعمولاً به ومقبولاً من جانب الدولة بسلطاتها الثلاث ويمارس منها في سائر أنحاء العراق بما في ذلك إقليم كردستان العراق. وهذا الفساد الجامح تعزز بفعل مشاركة الحكام والأحزاب السياسية الإسلامية، شيعية وسنية بنهب المال العام وكثرة الأموال المتأتية من استخراج وتصدير النفط الخام وخاصة خلال الفترة الواقعة بين 2005-2014/2015، إذ أصبحت الأرقام مخيفة حقاً وتجاوزت مئات المليارات من الدولارات الأمريكية. كما قاد الفساد إلى تفاقم العمليات الإرهابية وموت أبناء وبنات الشعب بالجملة.
كتب الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح في مقال له بعنوان "سياسيو شيعة العراق.. اخجلوا الشيعة" بموقع الحوار المتمدن في العدد 5025 بتاريخ 26/12/2015 بصدد الفساد في فترة حكم نوري المالكي ما يلي:
"لقد التقيت بفلاحين من الجنوب وحين سألتهم عن رأيهم في حكوماتهم الشيعية أجابوا(خزّونه من الله يخزيهم ويسود وجوههم)والواقع إن معظم قادتهم سقطوا اعتباريا من يوم هتفت الجماهير (نواب الشعب كلهم حراميه). وكان الفساد أقبح ما ارتكبه سياسيو الشيعة، وهذه حقيقة اعترفت بها المرجعية الشيعية ورئيس وزراء الشيعة لدورتين الذي اعتراف بأن لديه (ملفات فساد لو كشفها لأنقلب عاليها سافلها)..باعتراف ضمني ان بين حيتان الفساد .. مسؤولون شيعة.
وإذا كان صدام يوصف بأنه اكبر طاغية حكم العراق في عصره الحديث، فان نوري المالكي يعدّ أسوأ حاكم أشاع الفساد في تاريخ العراق والمنطقة، إذ بلغ المنهوب من ثروة العراق في زمنه ما يعادل ميزانيات أربع دول عربية مجتمعة،وجعل العراق افسد دولة في المنطقة وثالثها في العالم التي يزيد عديدها على (197) دولة! "
7. ولعبت المرجعيات الدينية والمذهبية الشيعية والمؤسسات الدينية السنية دوراً معمقاً للصراع من خلال مواقفها المؤيدة للأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية، الشيعة منها والسنية، مما أضاف دوراً سلبياً كبيراً في وصول القوى الطائفية السياسية إلى السلطة لتمارس دورها الاستبدادي والفاسد في حكم البلاد. ومع إنها تحاول في الآونة الأخيرة إدانة تلك السياسات، ففق كان الأفضل لها منذ البدء الابتعاد عن السياسة التي تسيء لها وللمجتمع والدولة المدنية.
8. ومنذ فترة مبكرة وصل إلى قيادة الحكم (السلطة التنفيذية) (2006م)، وبفعل المحاصصة الطائفية والأثنية، شخصية من قيادة حزب الدعوة الإسلامية والتحالف الوطني (البيت الشيعي) تميزت بالتزام النهج الطائفي المتطرف في معاداته للسنة ورفضه للديانات والقوميات الأخرى، شخصية نوري المالكي، الذي استخدم السلطة التنفيذية أسوأ استخدام وهيمن على السلطة القضائية التي لم تعد مستقلة، كما جمد المجلس النيابي الطائفي أيضاً لصالح استمراره في الحكم، فعمق الصراعات السياسية والاجتماعية والقومية والدينية والمذهبية وأشاع الرثاثة في الحكم والمجتمع، مما ساهم في تعميق الأزمة وتشديدها وتفاقم عسر حلها.
ولكن هذا الحكم الطائفي لم يشدد الصراع الطائفي والقومي فحسب، بل أهمل كلية التنمية الاقتصادية والبشرية والتخلص من التلوث البيئي وتوفير الخدمات الأساسية للمجتمع مما أدى إلى زيادة كبيرة في حجم البطالة المكشوفة والبطالة المقنعة في أجهزة الدولة وفرط بالمال العام وسمح لخسارة تقدر بأكثر من 500 مليار دولار أمريكي خلال الفترة الواقعة بين 2006-2014. كما أهمل أصلاح وتحسين الخدمات العامة بالبلاد، وخاصة الماء والكهرباء والصحة والنقل والبيئة والتعليم بمختلف مراحله فانتشرت الرثاثة في جميع المدن العراقية وفي الحكم والدولة.
وحين هبت مظاهرات شعبية في شباط 2011 مطالبة بمحاربة الفساد والإرهاب وتوفير الخدمات ضربت بقسوة من أجهزة الحكم ونوري المالكي، كما ضربت التظاهرات الشعبية في الأنبار التي كانت تطالب بعدم إقصاء وتهميش أتباع المذهب السني، حيث استخدم الحكم إرهاب الدولة وقتل الكثير من المواطنين واعتقل الآلاف منهم وزجهم في المعتقلات إضافة إلى الآلاف الأخرى التي كانت في المعتقل قبل ذاك ودون محاكمات ومارس التعذيب الوحشي ضدهم، تماماً كما مارسته أجهزة الأمن الأمريكية في سجن "أبو غريب".
وفي ظل هذا الحكم وبسبب الصراعات الطائفية والفساد المنتشر في أجهزة الدولة والقوات المسلحة، إضافة إلى لبنية الطائفية لتلك الأجهزة العسكرية، استطاعت قوى الإرهاب الإسلامي السياسي (داعش) وبدعم مباشر من قادة عسكريين بعثيين في داخل هذا التنظيم أو باسم حزب البعث إلى اجتياح العراق من بوابة الموصل واستباحة عدة ملايين من الناس الأبرياء من سكان الموصل وبقية محافظة نينوى، بعد أن هربت كل صنوف القوات المسلحة التي زاد عددها عن 60 ألف فرد دون خوض أي معركة مع عدو لم يزد تعداده عن 800 إرهابي مسلح. وكانت الحصيلة قتل المئات من الإيزيديين وجمهرة من المسيحيين والشبك والتركمان وسبي الإيزيديين واغتصاب المئات من أخواتنا الإيزيديات وسبي المئات من الأطفال وإخضاعهم لغسل الدماغ وتدريبهم على ممارسة القسوة والقتل السادي، إضافة إلى نزوح أكثر من مليوني نسمة من المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان من مناطق سكناهم. كما قتل 1500 طالب عسكري في قاعدة سبايكر الجوية. وسيطر العدو الإرهابي على كميات هائلة من السلاح والعتاد الحديث والمتطور، وعلى الملايين من الدولارات الأمريكية وعلى آبار استخراج النفط الخام. وينتشر هذا العدو المجرم على ثلث مساحة العراق بكل سكانها (الموصل ومناطق أخرى من محافظة نينوى والأنبار ومناطق من ككوك وصلاح الدين ويشارك في زرع الموت في ديالى وكركوك وبغداد أيضا.
مع إن الصراع الطائفي ما يزال قائما، وكذلك التهميش والإقصاء الديني ما زال سارياً، وما تزال الأجهزة الأمنية قائمة على أسس طائفية وولاءات لغير الشعب وتمارس الاضطهاد والقمع، فأن صراعات جديدة بدأت تبرز في الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، صراعات الفئات الكادحة والمهمشة والمغبونة، الفئات الفقيرة التي رزحت وما تزال تحت تأثير وشعارات الدين والطائفية المزيفين والمشوهين، ضد الفساد ونقص الخدمات وضد الحكام الذين مارسوا كل الموبقات بحق الشعب والوطن وما زالوا دون محاكمات، مما أدى إلى تمزيق فعلي للنسيج الوطني للمجتمع العراق. وبرزت من بين هذه الفئات ومن بين الفئات المثقفة العراقية طليعة ديمقراطية مقدامة تشارك في مظاهرات الحراك الشعبي. وفرض هذا الواقع على المرجعيات الدينية بالنجف والمؤسسات الدينية السنية أن تغير نهجها لتؤيد مطالب المتظاهرين العادلة والمشروعة والموجهة ضد الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية ومن أجل مجتمع مدني ديمقراطي، وكلا العاملين ألزما رئيس الحكومة العراقية إلى إعلان حزمة من الإجراءات الإصلاحية التي أطلق عليها الحزمة الأولى على أن تليها حزم أخرى. وكانت الحزمة الأولى جزئية وليست بالعمق الذي يريده المتظاهرون والشعب، وخاصة ضد الفساد والفاسدين في الحكم والقضاء والمجلس النيابي والأحزاب الإسلامية السياسية وغيرها.
ومن الواضح أن الإجراءات الإصلاحية الجزئية قد توقفت حالياً، والسؤال لماذا؟
من يتابع الوضع بالعراق سيرى أمامه لوحة معقدة ومتشابكة وميزان قوى ما يزال مختلاً.
فالأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية الحاكمة والمؤتلفة في التحالف الوطني تعيش صراعاً على قيادة السلطة ودفاعاً عن المكاسب التي تحققت لها خلال الفترة المنصرمة على حساب الشعب والاقتصاد الوطني. وهي منقسمة على نفسها، ورغم دعوتها للإصلاح، إلا إنها تخشى على حكمها من الضياع وعلى المصالح التي تحققت لها خلال السنوات المنصرمة. ومع ذلك فهناك القاعدة الشعبية لهذه الأحزاب التي بدأت تطالب بالإصلاح والتغيير. والعبادي الذي يؤكد بأنه ضد الطائفية السياسية، لكنه يخشى على حكم حزبه وتحالفه أيضاً ويخشى على المنصب الذي وصل إليه إن غامر بإصلاحات جديدة, وهو يراوح بين مدينتي "نعم" و "لا" على حد تعبير الشاعر السوفييتي السابق أفتوشنكو، أنه يشتهي ولكنه، كما يبدو ضعيفاً وعاجزاً وخائفاً من مغامرة الإصلاح والتغيير، رغم التأييد الشعبي الداخلي والإقليمي والدولي الذي حضي به!
الأحزاب الإسلامية السنية والقومية اليمينية منقسمة على نفسها أيضا، بعضها يشارك مع داعش ويؤيده داخلياً، وبعضها يريد التغيير ويخشاه، والثالث راغب في المشاركة في المساومة للحفاظ على المكاسب الضيقة التي تحققت لها في هذه الدولة الطائفية والمحاصصة الطائفية، وبالتالي يهمل كلية مصالح ومطالب السكان من أتباع المذهب السني. ولهذا فهي أحزاب وقوى انتهازية مترددة بخلاف قاعدتها الشعبية التي تريد الإصلاح والتغيير.
أما القوى الديمقراطية العرقية فهي ما تزال تعاني من ضعف، ولم تستفد حتى الآن من الأزمة الشاملة لتعبئة المزيد من القوى لصالح التغيير. إذ ما تزال تعاني من نقص في حيويتها وقدرتها على كسب المزيد من البشر لصعوبة الوضع وتعقيدات وتشابك المشكلات والولاءات المذهبية. ومع ذلك فقد نشأ حراك شعبي مستقل ومدعم من قبل القوى الوطنية والديمقراطية العلمانية، والذي يتجلى في المظاهرات الأسبوعية في أيام الجمعة والتي تحولت إلى ظاهرة فاعلة ومؤثرة في الأوضاع وتساهم في تحقيق الاصطفاف لصالح التغيير وعزل المناهضين له. وهذه المظاهرات لا تقتصر على بغداد فحسب، بل وفي أغلب المدن العراقية في محافظات الوسط والجنوب. ومن الواضح القول بأن ميزان القوى ما يزال مختلاً لصالح القوى المناهضة للتغيير لأنها تمسك بالسلطة القضائية والسلطة التشريعية وكذلك في السلطة التنفيذية.
ويعاني إقليم كردستان العراق ذات العلل التي يعاني منها الحكم ببغداد، ويواجه حالياً استعصاءً في حل الصراعات الجارية بين الأحزاب الكردية، إذ أن هناك تهميشاً للقوميات وأتباع الديانات الأخرى، بل وهناك تغيير ديموغرافي يعاني منه المسيحيون بالإقليم أو بالمناطق الخاضعة له. إن الإقليم يعاني من الفردية والحزبية الضيقة المهيمنة على الحكم غير الموحد، رغم التوحيد الشكلي للحكم منذ العام 2005، وكذلك انتشار الفساد والصراع المحتدم على السلطة والنفوذ والمال، وليس على مصالح الشعب. إن فجوة الدخل السنوي في المجتمع الكردستاني في اتساع مستمر والبطالة المقنعة كبيرة جداُ ومستنزفة لنسبة مهمة من الدخل القومي بالإقليم، إضافة إلى تفاقم البطالة المكشوفة وتردي الوضع المالي وغياب التنمية الفعلية للصناعة والزراعة والاستثمار الإنتاجي والتشغيل وتوقف المشاريع العمرانية، مما يجبر مسؤوليه اللجوء إلى دول عربية مستبدة، كالسعودية، لطلب المساعدة المالية، وهو أمر يعقد اللوحة السياسية بالإقليم.
ومما يزيد الطين بِلةً غياب اللغة المشتركة بين الحكم الاتحادي وحكم الإقليم وعدم الاتفاق على جملة من القضايا المهمة التي يفترض أن يُعتمد الدستور العراقي في حلها من جهة، وتدخل تركيا، (دخول قواتها العسكرية إلى قرب الموصل بإقليم كردستان ايضاً والتي ترفض عملياً الانسحاب الفعلي من أرض العراق)، وتدخل إيران الفظ في الشؤون الداخلية للعراق والإقليم (دخول أكثر من 500 ألف زائر إيراني بالقوة عبر الحدود العراقية الإيرانية دون موافقة الحكومة العراقية)، واستناد كل طرف بالعراق والإقليم على هذه الدولة الجارة أو تلك، مما يعرقل إيجاد حلول عملية داخلية وديمقراطية للوضع بالعراق وبالإقليم، ويذكرنا بالتجارب التاريخية المريرة للشعب الكردي في هذا المجال. ومشكلات الإقليم المتراكمة لا ترتبط بموضوع رئاسة الإقليم فحسب، بل وبالدستور الديمقراطي المطلوب إنجازه وصلاحيات رئاسة الإقليم ورئيس الحكومة والبرلمان وطبيعة الحكم الديمقراطي المنشود من الشعب ودور المجتمع والفرد في رسم السياسة العامة والسياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية بالإقليم ودور الحريات العامة وحرية الصحافة والتعبير والتظاهر السلمي ومكافحة الفساد وتأمين الاستثمارات الضرورية للتنمية الإنتاجية والتشغيل وتنويع الاقتصاد الوطني...الخ. ومن الملاحظ إن رئاسة وحكومة الإقليم لم تؤيد الإصلاحات والتغيير المنشودين بالبلاد، لأنها ترى في ذلك تأثيراً سلبياً على مصالحها، في حين أن العكس هو الصحيح.
إن الجانب الإيجابي في وضع العراق حالياً هو النجاحات التي تتحقق على جبهات القتال مع عصابات داعش وعصابات القادة العسكريين البعثيين المشاركة مع داعش. وهذه النجاحات ما تزال محفوفة بمخاطر بسبب الصراعات في الداخل الكردستاني وعلى مستوى القوى السياسية بالعراق وعدم قدرة المجتمع على فرض التغيير المطلوب.
إن تحقيق طرد عصابات داعش، التي تحتل جزءاً من أرض العراق وتخضع سكانها للاستعباد والقتل والتعذيب والتهجير القسري، سيعتبر نجاحاً كبيراً للشعب العراقي، وإن ما تحقق بالرمادي يعتبر إنجازاً كبيراً للقوات المسلحة والقوات الأمنية العراقية ومتطوعي العشائر بمحافظة الأنبار، ولكن يبدو إن صراعاً مبرمجاً منذ الآن على السلطة أيضاً والنفوذ والمال سيبرز فيما بعد وخاصة بعد تحرير الموصل، باتجاهات ثلاثة هي :
1. صراع محتمل بين السلطة السياسية والحشد الشعبي (المكون من المليشيات الطائفية المتحكمة في وسط وجنوب العراق وبغداد حالياً) والراغبة في الانتشار على نطاق القطر كله.
2. صراع محتمل داخل الأحزاب الدينية الشيعية أولاً، وداخل الأحزاب السنية ثانياً، وفيما بين السنية والشيعية ثالثاً، ما لم يحصل التغيير المنشود في النظام الطائفي العراقي، وما لم يبدأ العراق ببناء دولة مدنية ديمقراطية تسعى إلى تحقيق وحدة الشعب لا تفتيته دينياً وطائفيا وأثنياً.
3. صراع محتمل بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم على المناطق المتنازع عليها والتي اعتبرت رئاسة الإقليم إن المناطق التي تحررت من محافظة نينوى أو غيرها هي تابعة للإقليم، وهو أمر لا يمكن قبوله، إذ لا بد من معالجة هذه الأمور بأسلوب ديمقراطي وعقلاني. وقد ظهر هذا النزاع المسلح الجزئي في طوزخورماتو بين الحشد الشعبي وقوات البيشمركة والذي يمكن أن يبرز في مناطق أخرى ما لم يتم العمل بموجب المادة 140 من الدستور العراقي المعطل العمل بها عملياً وبصورة غير مشروعة منذ العام 2005.
ولكن الصراع الأوسع سيبدأ بين الشعب المتذمر وهبَّته الراهنة في مظاهراته الأسبوعية (أيام الجمعة من كل أسبوع) وبين القوى التي تسعى إلى إيقاف التغيير المنشود ورفض حتى تلك الإصلاحات الطفيفة التي اتخذها رئيس الوزراء والتي عرقل الكثير منها عملياً، وهي القوى التي تمارس شتى الأساليب بما في ذلك الاعتقال والتعذيب والاغتيال، كما حصل خلال الفترة المنصرمة. فالمعارك المحتملة قادمة وعلى القوى الديمقراطية والوطنية الحريصة على وحدة البلاد وأرواح بنات وأبناء الشعب، إن أرادت تجنبها، العمل الكثيف والمعمق لتشكيل تحالف وطني عريض حقاً لمواجهة القوى التي ترفض التغيير وتعرقل تحقيق مصالح الشعب والوحدة الوطنية. إن علينا أن نفتح شارعاً عريضاً يتسع تحالف القوى الوطنية والديمقراطية التي تريد الخلاص من الطائفية السياسة والأثنية الشوفينية أو ضيق الأفق القومي ومن الفساد والإرهاب من جهة، وتريد بناء دولة مدنية ديمقراطية علمانية تحترم القوميات وحقوقها وتحترم أتباع الديانات والمذاهب وحقوقهم المشروعة وتعمل على إقامة مجتمع مدني ديمقراطي وتعزيز دور ومكانة منظمات المجتمع المدني وتمارس التنمية للاقتصادية والبشرية بما يحقق تغييرا في بنية الاقتصاد الوطني والخلاص من طابعه الريعي الاستهلاكي الراهن ومكشوفيته الشديدة والتبعية عملياً على الخارج، والعمل على مكافحة البطالة والفقر والحرمان والرثاثة الاجتماعية السائدة والمساهمة في تحقيق السلم الاجتماعي والاستقرار والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى. إلى تحقيق هذا الهدف يفترض أن يسعى له جميع المخلصين بالعراق والمقيمين بالخارج، إنه الأمل الذي يناضلون من أجل تحقيقه لصالح الشعب بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية الديمقراطية ولصالح الوطن ومنطقة الشرق الأوسط. ها نحن ودعنا الأعوام العجاف 2003-2015، وها نحن ندخل العام الجديد، عام 2016، بحيوية وأمل وعمل الشعب وقواه المخلصة من أجل التغيير الجذري لواقع العراق المأساوي الراهن، ولكن لا تتكرر مآسي وكوارث السنوات المنصرمة.