الأخ الفاضل آية الله العظمى السيد علي السيستاني المحترم
تحية طيبة وبعد،
كنت قد وجهت لسماحتكم وقبل عدة سنوات رسالة مفتوحة حول بعض الشعائر والطقوس المستحدثة والقديمة التي تمارس في طقوس العزاء على الحسين بن علي بن أبي طالب الذي استشهد وجميع صحبه الكرام من الرجال في واقعة الطف بكربلاء في العام 61 هـ 680 م، أي قبل ما يقرب من 1336 عاماً. أشرت فيها إلى أن هذه الطقوس والشعائر الجارية حالياً لا تنسجم مع مضمون تضحيات واستشهاد الحسين وصحبه وسبي عائلته، ولا تساهم في تبجيله وبما يليق بشهادته التي يفترض أن تبقى حية ومحترمة في ذاكرة الشعوب. ورجوتكم فيها أن تلعبوا دوركم في رفض تلك الطقوس والشعائر البعيدة عن الدين والمذهب، كما ساهمت مجموعة خيرة وطيبة وجريئة من شيوخ الدين الشيعة حين رفضوا وشجبوا وأدانوا علناً هذه الطقوس والعادات مثل التطبير (أي الضرب بالسيوف والخناجر والقامات على الرأس وشجَّه) أو الضرب بسلاسل وسكاكين حادة ومدببة تدمي الظهر أو اللطم على الصدر أو الارتماء في الأوحال والطين أو الهرولة أو السير على الأقدام لمسافات طويلة ومن مدن بعيدة إلى حيث قبر الحسين وأخيه العباس بكربلاء. لقد رفضوا تلك الطقوس والشعائر والعادات الدخيلة باعتبارها بدعاً مرفوضة ومسيئة وذات إساءة كبيرة للنفس والجسد والمجتمع، وهي ليست من الدين. ومن المؤسف حقاً أني لم أتسلم منكم جواباً على رسالتي كمواطن عراقي عرض عليكم وجهة نظره وأراد الاستماع إلى رأيكم.
ثم وجهت لسماحتكم رسالة مفتوحة أخرى أشرت فيها إلى مواقفكم من القضايا السياسية والانتخابات ومن الأحزاب الإسلامية الشيعية السياسية ورجوتكم فيها التخلي والكف عن التدخل في الشأن السياسي كرجل دين ومسؤول عن حوزة دينية كبيرة خرَّجت وتخرّج الآلاف من شيوخ الدين وعن تقديم الدعم والمساندة والتأييد لهذه الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية السياسية وقياداتها لأسباب ثلاثة جوهرية:
1. يجب الفصل بين الدين وشيوخه من جهة، والسياسة والدولة والسلطة السياسية من جهة أخرى.
2. الابتعاد الفعلي عن الأحزاب الإسلامية السياسية وقياداتها لاعتبارين مهمين: أولهما، لا يجوز بالدولة المدنية إقامة أحزاب إسلامية سياسية تستند إلى هذا الدين أو ذاك أو إلى هذا المذهب أو ذاك، بل يفترض أن تتأسس الأحزاب على أساس مدني واستناداً إلى مبدأ المواطنة الحرة والمتساوية بغض النظر عن الدين أو المذهب؛ وثانيهما، إن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية تعتمد على الدين وشيوخه للوصول إلى السلطة، ثم تستخدمهم لصالح تعزيز مواقعها وسيطرتها على الدولة بسلطاتها الثلاث وعلى المجتمع، بعدها تفرض هيمنتها على السلطة وشيوخ الدين في آن واحد وتجعل الدين وشيوخ الدين أدوات بأيدي "السلطان!" ولصالحه.
3. إن العراق دولة متعددة القوميات والديانات والمذاهب، وبالتالي فأن الدولة بسلطاتها الثلاث يفترض أن تكون محايدة إزاء جميع الديانات والمذاهب وإزاء أتباع جميع الديانات والمذاهب لمنع التمييز والتهميش والإقصاء والتفرقة بين المواطنات ولمواطنين جميعاً، فـ "الدين لله والوطن للجميع".
وقد برهنت تجارب العالم القديمة والحديثة إلى إن نظام الحكم المدني الديمقراطي العلماني هو النظام القادر في أوضاع العراق وتكوينه الاجتماعي والقومي والديني والمذهبي على توفير خمس مسائل جوهرية:
1. الفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء والإعلام.
2. الفصل بين الدين والدولة والسياسة مع احترام جميع الأديان والمذاهب والعقائد وعدم تدخل الدولة في شؤونها الداخلية.
3. التعامل مع المواطنين على أساس المساواة أمام القوانين وفي ممارسة الصلاحيات والواجبات بغض النظر عن القومية والدين والمذهب أو العقيدة الفكرية والسياسية.
4. عدم التمييز إزاء المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات كافة.
5. اعتماد مبادئ حقوق الإنسان وبقية الحقوق الواردة في المواثيق والعهود الدولية والإقليمية الخاصة بشرعة حقوق الإنسان.
ولكن سماحتكم لم يُجب على رسالتي الثانية أيضاً، بل واصلتم وشددتم من تدخلكم لا في زمن أقرار الدستور وفي وضعه والمشاركة في فرض صيغ ومواد معينة عليه فحسب، بل وفي ممارسة التأثير المباشر على مجرى الانتخابات وتأييد الأحزاب الإسلامية الشيعية السياسية التي قادت إلى اصطفاف واستقطاب ديني وطائفي مشين بالعراق. وقد لعبت قوى الاحتلال الأمريكي-البريطاني دوراً كبيراً واستعمارياً وقحاً في هذا الشأن، إذ اتبعت النهج القائل "فرق تسد"! وقد غضضتم الطرف عن هذا السلوك وسلوك القوى الطائفية السياسية، الشيعية منها والسنية، فكانت الكوارث المتلاحقة والمآسي التي حلت بالعراق والتي ما تزال فاعلة.
لقد تدخلتم مباشرة في انتخابات المجلس النيابي العراقي لعدة دورات وساعدتم على فوز الأحزاب الإسلامية الشيعية وطالبتم من مؤيديكم بدعم هذه الأحزاب. وقد وصلت هذه الأحزاب إلى السلطة فعلاً باستخدام اسمكم والتمتع بدعمكم، فماذا كانت الحصيلة؟ لقد فرضت هذه الأحزاب، باسم "البيت الشيعي" و"التحالف الوطني" هيمنتها على البلاد ومارست التمييز الديني والمذهبي بأقصى وأقسى أشكاله ولم تتورع عن التهميش الديني والمذهبي والإقصاء أيضاً لبقية المكونات. وساد الفساد والإرهاب والقتل على الهوية والقتل بالجملة والمعارك الطائفية المريرة على السلطة والنفوذ والمال. واستفرد رئيس الوزراء السابق بالحكم ومارس الاستبداد وشراء الذمم وساعد على نهب الأموال والتفريط بها حتى اقترب العراق من حافة الإفلاس، وأصبح الآن أكثر من نصف سكان العراق في حالة الفقر الشديد (تحت خطر الفقر الدولي)، وستتفاقم هذه الحالة في الفترة القادمة نتيجة تراجع أسعار النفط الخام عالمياً والمرتبط بتآمر صارخ من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية على نحو خاص، لإلحاق الأذى باقتصاد روسيا وإيران والعراق، ونتيجة للحرب الدائرة في غرب وشمال العراق.
لقد مارس المستبد بأمره رئيس الوزراء السابق نهجاً سياسياً وسياسات اقتصادية ألحق أضراراً فادحة بالشعب العراقي واقتصاده الوطني وحياته الاجتماعية والثقافية والبيئية. وقد كان الرجل ".. واعياً وقصدياً بما يفعل ويقول، وهو هنا أقرب إلى الشخصية "السيكوباثية" التي يمارس صاحبها الكذب دون وخز من ضمير، ويكون في العادة قاسياً وبارداً عاطفياً وميتاً ضميرياً ولا يتعلم من التجارب والأخطاء"، كما أشار إلى ذلك باحث أكاديمي وأستاذ في علم النفس، وكان المستبد بأمره يستند إليكم وإلى تأييدكم له حتى أوصل العراق إلى الحالة الراهنة حيث اجتاحت في صيف العام 2014 عصابات داعش الإرهابية المجرمة بالتعاون مع حثالة من عسكريي وأمنيي وقادة حزب البعث المسلحة السابقة وبعض الفصائل الإرهابية المتطرفة الأخرى مدينة الموصل ومن ثم بقية محافظة نينوى وتعززت مواقعها بصلاح الدين والأنبار وأجزاء من كركوك ..الخ. عندها بادرتم إلى إطلاق فتوى جهاد "فرض كفاية" التي أدت إلى تشكيل جيش آخر أطلق عليه بـ"الحشد الشعبي" الذي أصبحت المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة" هيكله العظمي وقوامه الأساسي إضافة إلى جمهرة من المتطوعين الآخرين الذين التحقوا به.
إن قوى الحشد الشعبي تأتمر عملياً بأوامر رئيس الوزراء السابق ورئيس منظمة بدر ورئيس عصائب أهل الحق والقائد العسكري والسياسي الإيراني قاسم سليماني، وتتبع شكلياً القائد العام للقوات العراقية المسلحة. وهذا "الحشد الشعبي" يشكل اليوم جيشاً فوق الجيش العراقي ومنافساً له ومتصدياً لدوره في المستقبل القريب وبعد الخلاص من داعش بالعراق، وهو قوام دولة داخل الدولة العراقية الهشة حالياً! لقد كان الموقف الأسلم، كما أرى، لو كنتم قد دعوتم إلى التطوع في صفوف الجيش العراقي يوزعون على الوحدات العسكرية الموجودة فعلاً وليس إلى وحدات منفصلة عنه، ثم بطها برئيس الوزراء العراقي الذي لا يخضع له بل قادة المليشيات الشيعية المسلحة، وهم قادة الحشد الشعبي.
إن العراق يواجه اليوم، ولأنه دولة هشة وسلطة تنفيذية ضعيفة عاجزة عن الإصلاح ومجلس نيابي أضعف وضد الإصلاح، تدخلاً سافراً وفظاً من قبل دول الجوار، من السعودية وقطر وبعض دول الخليج الأخرى وتركيا وإيران. ولو لم يكن لهذه الدول أحزاب وقوى تمارس دور اليد الممتدة لها لما استطاعت أن تمارس هذا الدور التخريبي المتواصل والملموس. كما أنكم شخصياً تواجهون اليوم دوراً منافساً ومؤذياً من جانب حوزة قم الدينية ومرشد إيران الذي يتقاطع في جملة من المسائل مع مواقفكم الأخيرة، وخاصة في تأييده السياسي للمستبد بأمره السابق والمساندين له والمناهضين للإصلاح والتغيير وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العراقية، إضافة غلى اختلافكم معه في المسالة المبدئية/ مسألة ولاية الفقيه. وقد كلف المرشد الإيراني شخصية دينية ليكون وكيلاً له بالنجف، وهو مخالف كلية لوجودكم ووجود أربعة من شيوخ الدين الكبار والبارزين بالنجف وحدها.
حين أزيح رئيس الوزراء السابق من منصبه ومراكزه السياسة الكثيرة اعتلى الحكم أحد قادة نفس الحزب ولم يفعل شيئاً لسنة كاملة رغم القسم الذي أداه حين تسلم رئاسة الوزراء برفض الطائفية وإجراء إصلاحات مهمة. ولكن وبعد بدء الحراك الشعبي ومظاهرات أيام الجمعة المطالبة بالإصلاح، سارعتم إلى تأييدها عبر وكيلكم بكربلاء عبد المهدي الكربلائي، مما دفع برئيس الوزراء إلى تأييدها وإصدار مجموعة من القرارات غير المدروسة، رغم فائدتها. وجاء الموقف متأخراً جداً، إذ كان الخراب قد عم البلاد وأصبح الفساد سائداً وكذا الإرهاب والتعرض لأتباع الديانات الأخرى، وخاصة ضد المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين على سبيل المثال لا الحصر. ولم تنفع خطب الشيخ عبد المهدي الكربلائي المؤيدة لإصلاح وسلطات الدولة الثلاث والدعوة للدولة المدنية في إعطاء الزخم الضروري لرئيس الوزراء، بل تعطل التنفيذ وهوجم من جانب المستبد السابق بأمره ومن غيره من المسؤولين السابقين والحاليين ومن الأحزاب الإسلامية الحاكمة، رغم التأييد الشعبي والعالمي وتأييدكم للإصلاحات الضرورية. ولم يعد رئيس الوزراء قادراً على الاستجابة لكم، بل نفر عنكم، لأنه سافر إلى طهران وعاد منها بفرمان تأييد له من مرشد الثورة بإيران ودعم لسياساته السابقة المناهضة لمصالح الشعب وإسناد للميليشيات السابقة القائمة حتى الآن والتي يقودها عملياً والتي ولاءها للمرشد الأعلى بإيران وليس لغيره .
أنتم وأنا من جيل واحد، جيل الثلاثينات من القرن الماضي، وأن كان مسار حياتينا الفكرية قد اتخذ مسارين أو اتجاهين مختلفين. خبرنا الحياة العملية وعشنا التحولات المأساوية والكارثية والمصائب التي نزلت على رأس العراقيين والعراقيات، كما رافقنا مواقف نخبة من شيوخ الدين الشيعة، ومنهم من كان المسؤول الأول عن الحوزة الدينية في النجف، وأغلبهم تقريباً حاولوا الابتعاد عن التدخل في السياسة وإيلاء الاهتمام كله للجوانب الدينية والاجتماعية، ونجحوا في ذلك، منهم السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني، السيد حسين الطباطبائي القمي، السيد حسين البروجردي والسيد أبو القاسم الخوئي وشيوخ دين غيرهم. وقد استطاعوا التأثير غير المباشر على الأحداث الاجتماعية والوطنية العامة، في حين البعض منهم قد ارتبط بالسلطة واستجاب لما تطلبه منه مثل السيد محسن الحكيم في فترة حكم البعث 1963 حين "أباح!" دم الشيوعيين، في حين رفض السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني تقديم مثل تلك الفتوى البائسة في النصف الثاني من العقد الخامس من القرن الماضي للحكم الملكي ونوري السعيد. إن الابتعاد عن السياسة حصانة لكم ولأتباعكم من أتباع المذهب الشيعي في الإسلام وللمجتمع العراقي بأسره.
إن ما ارجوه منكم هو سحب تأييدكم للأحزاب الإسلامية السياسية والكف عن التدخل بالسياسة باعتباركم مسؤول عن حوزة دينية إسلامية شيعية، وأن تحرّموا دينياً وحقوقياً واجتماعياً التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى أو تهميشها أو إقصائها، وأن ترفضوا استمرار النظام الطائفي السياسي بالعراق والمحاصصة الطائفية التي تلحق أفدح الأضرار بالشعب العراقي وتطوره المنشود، لأن هذا النهج مفرق لوحدة الشعب ومفتتها من الناحية الاجتماعية والثقافية والسياسية، وأن تدعوا إلى إقامة النظام المدني الديمقراطي الذي يرفض تدخل الدين وشيوخ الدين بالسياسة، الذي لا يتعارض مع إدلاء رأيكم الشخصي في ورقة الانتخابات مثلاً وأن تدعون إلى رفض المادة التي تتحدث عن الإسلام باعتباره دين الدولة العراقية، إذ أنكم كشيخ دين تعرفون جيداً بأن الدولة لا دين لها باعتبارها شخصية معنوية لا تمارس أركان أو فروض الدين الخمسة في الإسلام: "الشهادتان والصلاة بالأوقات الخمسة والزكاة والصوم والحج"، في حين أن الإسلام هو دين للفرد الذي يفترض فيه كمسلم أن يمارس هذه الأركان الخمسة, ولهذا فأن الدولة التي لا تمارس كل ذلك وليست قادرة على ممارسة كل ذلك، لأنها شخصية معنية، ليس لها دين. وينطبق هذا على كل الأديان بالعالم. ومن هنا جاءت الحكمة التالية "الدين لله والوطن للجميع".
أتمنى عليكم أن تلعبوا دوركم الديني والاجتماعي في مكافحة الفساد والإرهاب ودعم الفقراء والمعوزين من الناس العراقيين ومن الذين اضطهدوا بأي شكل كان وفي أي عهد من العهود المنصرمة والوقت الحاضر، وأن تكونوا ضد التمييز بكل أشكاله. إن هذا العمل ليس بنشاط سياسي بل نشاط اجتماعي مطلوب من كل فرد عراقي أو أي إنسان عاقل. أتمنى أن تجد رسالتي هذه استجابة منكم لما فيها من أمور وأن تحظى بالعناية والإجابة مع الشكر والتقدير لشخصكم الكريم.
البروفيسور الدكتور كاظم حبيب
8/1/2016