الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
«نزوة بونابرت» لتزفايغ: استبداد الحاكم ومهنة معاونيه
الثلاثاء 09-07-2013
 
ابراهيم العريس

نعرف أن ستيفان تزفايغ، الكاتب النمسوي الذي كان واحداً من أكثر كتّاب اللغة الألمانية شعبية في العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين، كتب الكثير من السير لبعض عظماء زمنه والأزمان الماضية. وهو كتب السير كما كتب الرواية، والشعراء والنصوص المسرحية، والمذكرات. ولئن كانت كتاباته الإبداعية اتسمت دائماً ببعد ميلودرامي خلّف مدرسة في هذا المجال، في القرن العشرين، فإن حياته نفسها كما نعرف انتهت نهاية ميلودرامية، بل درامية حقيقية. وإذا كان تزفايغ قد اختار أن يضع نهاية لحياته وحياة زوجته معه، فيما كانا يقيمان في البرازيل خلال السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية، فإن تلك النهاية - عن طريق الانتحار -لم تأت، بحسب معظم المصادر، بسبب ظروف عائلية أو خاصة، بل انطلاقاً من رؤية سوداوية متشائمة لأحوال عالم بدأت تسيطر عليه الفاشيات ولا سيما النازية. ففي العام 1942، الذي انتحر فيه هذا الكاتب ذو الحساسية المفرطة، كان هتلر يسجل أكبر انتصاراته العسكرية على الجبهات كافة، بحيث بدا من المؤكد ان ليس في هذا العالم قوى قادرة على ردّه. وبالنسبة الى تزفايغ، الكاتب النمسوي المنفي قسراً في البرازيل، كان مثل ذلك الانتصار للدكتاتور النازي يعني نهاية العالم (وهو عنوان واحد من كتبه الأخيرة)... اذ، ما أبشع عالم يسيطر عليه الفاشيون ويتحكم به الدكتاتوريون!

> ومهما يكن من أمر، فإن القراء الذين عرفوا أدب ستيفان تزفايع، من طريق رواياته العاطفية والميلودرامية، مثل «24 ساعة من حياة امرأة» و»حذار من الشفقة» و»السيدة المجهولة»، ما كان في امكانهم أبداً أن يخمنوا ان السياسة ومصائر العالم كانت تشغل بال هذا المؤلف الى هذا الحد. غير ان هذه الفرضية كانت تعني في الواقع ان أولئك القراء كانوا يتوقفون عند سطح كتابات تزفايغ، غير قادرين على التوغل في جوهر ما يريد قوله، ناهيك بأنها كانت تعني ان جزءاً أساسياً من انتاج هذا الكاتب كان مجهولاً بالنسبة اليهم. وهم كانوا معذورين في هذا، اذ ان الفارق في الشهرة بين أعمال تزفايغ العاطفية الشعبية، وبين كتاباته الأخرى، سواء انتمت الى كتب السيرة أو الى المسرح، أو الى نوع خاص من كتابات نظرية كان يغوص فيه بين الحين والآخر، ذلك الفارق كان كبيراً. ومن هنا القول ان جزءاً كبيراً من نتاج صاحب «حذار من الشفقة» لا يزال شبه مجهول حتى الآن. وفي يقيننا انه الجزء الأهم.

> من هذا الجزء مسرحية كتبها تزفايغ في العام 1929، أي بالتزامن مع صعود الدكتاتوريات الفاشية في روما (موسوليني) وموسكو (ستالين) وبرلين (هتلر)... لكن المسرحية لا تتخذ من أي من هؤلاء بطلاً لها. بل تعقد البطولة لنابوليون... قبل أن يصبح نابوليون الذي نعرف، أي حين كان لا يزال الجنرال بونابرت، ويعيش صعوداً مؤكداً، سيقوده قريباً الى أن يصبح إمبراطوراً. إذاً، الزمن الذي تجري فيه أحداث هذه المسرحية، كان لا يزال زمن ما - بعد الثورة الفرنسية مباشرة، حين تولى بونابرت قيادة الحملة العسكرية على مصر. أما مكان الأحداث فهو مصر نفسها.

> حملت المسرحية في أصلها الألماني عنوان «خروف الإنسان المسكين»، لكنها عرفت في أوروبا بالاسم الذي أعطي لترجمتها الفرنسية لاحقاً، وهو «نزوة بونابرت». وللوهلة الأولى تبدو المسرحية «غرامية» في شكل أو في آخر، ذلك ان موضوعها، المأخوذ من حادثة حقيقية، شهدتها أعلى أوساط القيادة العسكرية الفرنسية في مصر في ذلك الحين، يتناول وله القائد بونابرت بزوجة حسناء، لواحد من ضباطه، وهو الملازم فوريس. ولقد كان هذا الملازم، واحداً من أكثر الضباط في الحملة إخلاصاً للثورة الفرنسية وقيادتها ومبادئها، وبالتالي كان كلي الإعجاب ببونابرت، موالياً له. ومن هنا أسقط في يده تماماً، ولم يعد يعرف كيف يتعين عليه أن يتصرف، اذ عرف بأمر اعجاب بونابرت بزوجته. اذ ازاء ذلك، راحت تمزقه الأفكار وضروب الحيرة... هو الذي كان ينظر الى قائده على أساس أنه التجسيد الحي للثورة... والإنسان - مثله، أي مثل الملازم - اذا كان مستعداً لبذل روحه وكل غال ونفيس لديه من أجل الثورة، هل يبخل بزوجته على من يجسّدها؟ لقد ملكت الحيرة فؤاد ذلك الملازم الشاب، في وقت راح فيه الضباط يجابهون الأمور بواقعية: اذا كان القائد الأكبر قد اختار تلك المرأة، ما على الملازم سوى الطاعة... وليس له الا ان يطلق زوجته كي يتمكن القائد من الحصول عليها شرعاً.أما في النهاية فكان لا بد مما ليس منه بد: يقرر الملازم أن يطلق زوجته فداء للثورة وقائدها. ولكن، في الوقت نفسه، يكون بونابرت قد نسي الموضوع برمته، ولم يعد راغباً في تلك السيدة. كان الأمر - بالنسبة اليه - مجرد نزوة عابرة. والآن لم يعد أمام القيادة الا ان تنهي الموضوع على أحسن ما يرام. ويتولى الجنرال نوشيه تسوية القضية، محيطاً الأمر كله بستار من الكتمان.

> من الواضح هنا، أن ستيفان تزفايغ لم يرغب في كتابة مسرحية عاطفية، أو عمل من النوع الفرنسي القائم على الثلاثي الشهير: الزوج - الزوجة - والعشيق. فالكاتب منذ قرأ عن تلك القضية في سيرة نابوليون، أدرك على الفور مقدار ما تحتويه من أبعاد شديدة الأهمية في دراسة شخصية الدكتاتور، كل دكتاتور وليس بونابرت وحده. ومن هنا، استعار ذلك الموضوع، ليطرح من خلاله بعض المسائل المهمة مثل مصلحة الدولة العليا، اذ تتجسد في رغبات الحاكم الفرد (القيادة العسكرية حين تطلب من الملازم فوريس أن يطلق زوجته، تأتي على ذكر مصلحة الدولة، لا على ذكر وَلَه بونابرت بالسيدة)... ومصلحة الدولة هنا تتمثل طبعاً في الاستجابة لنزوات سيد الدولة - وبونابرت حين كان قائداً للحملة على مصر، كان يعامل كسيد للدولة، استعداداً لتحوّله الى سيد حقيقي لها، لاحقاً حين يعود الى فرنسا -. ومن هنا واضح أيضاً أن الكاتب، كان أهم ما يهمه في ذلك العمل هو الدراسة العملية للكيفية التي تصاغ بها عبادة الزعيم في الدول التوتاليتارية. بالنسبة اليه، عبادة الزعيم هذه يُشتغل عليها، ودائماً من قبل مجموعة من أشخاص يحيطون بالحاكم، يحمونه، يستجيبون لرغباته، يُخضعون كل الآخرين لتلك الرغبات، ويتحولون هم أنفسهم الى حكام باسمه معبرين في كل لحظة عن ارادته... وهذا ما يجعل ثمة وحدة تذويبية، بين الدكتاتور الحاكم وأعوانه المحيطين به... وهذا الأمر ينظر اليه تزفايغ هنا على أنه بديهي... بمعنى ان الدكتاتور حين يحكم، ويملي ويريد ويظلم ويقتل، لا يقوم بأي من هذه الأعمال وحيداً، بل وسط مجموعة من معاونين يصبح هو بمثابة العقل والقلب بالنسبة اليهم ويصبحون هم، بمثابة الجسد. وهكذا يصبح من العبث المضحك، تبرئة الدكتاتور من تصرفات معاونيه، أو اعتبار تصرفاتهم وما يفعلون، أموراً نابعة من مصالحهم الخاصة التي قد تتعارض أحياناً مع مصالح الحاكم الدكتاتور.

> إذاً، نحن هنا - في حقيقة الأمر - أمام دراسة معمقة لعبادة الفرد وكيف تصنع. وما ينطبق على بونابرت في هذا السياق، ينطبق على كل ذلك النوع من الحكام. وإذ يقول ستيفان تزفايغ هذا، كان يقوله - كما أشرنا - من منطلق معايشته لصعود دكتاتوريات قائمة أصلاً على عبادة الفرد. وستيفان تزفايغ (1881 - 1942)، اذا كان عرف بخاصة كروائي وشاعر، وكاتب سير، فإن له في الكتابة المسرحية جهوداً، لا تقل أهمية عن جهوده الأخرى... بل كانت أكثر جدية في مواضيعها من رواياته. ومن أبرز مسرحيات هذا الكاتب، اضافة إلى نزوة بونابرت هذه: «بيت قرب البحر» عن الحرب الثورية الأميركية، و «ترسينس» عن القوة الروحية التي يمكن أن يتمتع بها كل شخص قد يكون ضعيفاً جسدياً، و «جريميا» وهي مسرحية اقتبس الكاتب أحداثها من العهد القديم، لكي يتحدث من خلالها عن نظرته الشاجبة للحرب العالمية الأولى.

alariss@alhayat.com

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
بحضور الجالية العراقية.. نصب تذكاري للجواهري يضيف بهجة لعاصمة التشيك
صالات القمار.. بعضها لغسيل الأموال وأخرى تتبع لجهات متنفذة
المالكي يبحث عن "نهاية سعيدة".. ولاية ثالثة قبل تقاعده
في كردستان العراق مقابر منسية لنساء ضحايا جرائم العنف الأسري
في يوم مكافحة المخدرات.. بيان عراقي عن "المتاجرين الدوليين والمحليين"
أردوغان: خطط نتانياهو ستتسبب بـ"كارثة كبرى" ونحن نقف إلى جانب لبنان
انخفاض ملحوظ.. رياح شمالية تكسر من حدة الموجة الحارة في العراق
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة