كان لابدّ لقادة العملية السياسية المتنفّذين، التعبير عن الامتنان للسيد مقتدى الصدر الذي وجّه بانسحاب كتلة الأحرار من اعتصام البرلمان. وبغضّ النظر عن الحيثيات التي دفعت إلى اتخاذ هذا القرار "الحكيم" في الوقت المناسب، فإنه ظلّ يُثير تساؤلاتٍ حول حقيقة ما يجري في الشارع العراقي وفي كواليس القيادات المتنابزة، فالعراقيّ بات مغشيّاً على وعيه من كثـرة الشعارات والوعود وصيحات المتظاهرين التي تخترق سمعه، وتجعله في حيرة من أمره لجهة حسم خياراته وانحيازاته في هذا الصراع المحتدم حول الإصلاح والتغيير.
الكلّ يتدافع ويُعلن نعي منظومة المحاصصة الطائفية، والشروع بتشييع النظام السياسيّ الراهن الذي كان السبب في ما آلت إليه أمور البلاد من تدهورٍ وانحدارٍ وتفسّخٍ.
وفي هذا الخضم من المناكفات بين مَن "هم" آباء العملية السياسية وأمراء الطوائف وسدنة الفساد ونهب المال العام، يبقى السؤال العالق بلا جوابٍ مقنعٍ يترصد ما يريدونه حقاً من دعاوى الإصلاح المطروح، وبأيّ قدرٍ ستحقق المطالب الشعبية و"كتلتها الصامته" التي لم تُغادر صمتها بعد، وهي مطالب ملموسة تتعلق بإنهاء حرمانها من مستلزمات حياة كريمة، تتمثل بإشاعة الأمن والاستقرار ومكافحة مهانة الفقر والبطالة، وتوفير الخدمات الضرورية وتأمين أبسط ما يضفي منها على الحياة سماتها الإنسانية.
وليس ما ينتظره العراقيون من إصلاح يراوح في مكانه ، يتجاذب أطرافه مَن هم أساس الأزمة وإفرازاتها، تأجيل مطالبهم الحيوية بانتظار ما ستسفر عنه "توافقاتهم" حول وجهة الإصلاح وآلياته، وما تعتمده من أساليب وتوقيتات زمنية للتخلي عن نظام المحاصصة، والأهداف المقصودة بمكافحة الفساد، والمفهوم الرشيد للحكومة التكنوقراطية المستقلة.
إنّ محاولة الالتفاف على المطالب الآنية الملحّة للعراقيين، بحجّة الاتفاق بين الزعامات حول موقف موحّد من برنامج الإصلاح وأولويّاته، لا يعني في واقع الحال سوى خديعة جديدة يُراد بها تخدير الرأي العام وتمييع إرادته وإظهاره كمَن ضيّع بوصلة حركته، فرغم خلط الأوراق المؤسف الذي نال من الحراك الشعبي المدني ومن دعواته وشعاراته ونزوعه الإصلاحي، فإن ذلك لم ينجح في التغطية على رموز الفساد والجريمة المنظمة والمسؤولين عما لحق بالبلاد من أزماتٍ وانهيارٍ وفوضى، وتبديد للموارد وقتلٍ على الهويّة وتمزيقٍ لوحدة نسيج المجتمع. والأهم من ذلك أنّ الوعي الشعبي ظلّ يقظاً في حالة حذرٍ من المناورات والتفاهمات "المخلّة"، ولم يعد معنيّاً بما تسفر عنه اللقاءات المغلقة على نفسها، وصار أقرب إلى فهم ما يستهدفه بلورة فكرة حكومة التكنوقراط من ضياع الوقت، وأعمق إدراكاً أنّ الحكومة المنشود ة سواءً كانت "مستقلة" أو محمية بالمحاصصة، فإنها لا تعني ولا تقوى على خلخلة النظام السياسي القائم على التقاسم والفرهود. وهي في كلّ الأحوال ستُولد مشفوعة ببركات القيادات القائمة، ولن تكون كلها منزّهة عن المظاهر والعوامل التي كانت أساساً للأزمات التي لا سبيل لإنهائها بغير تغيير موازين القوى وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، والشروع الفعلي بالتدابير والتشريعات التدريجية في إطار برنامج عملٍ شامل علني يُصفّي قواعد وأسس النظام الطائفي المحاصصي القائم.
وهذا التوجه لا علاقة له بما صار يجري التأكيد عليه بالعودة إلى "الشرعية"، إلّا إذا كان المقصود بذلك اعتماد "شرعية" المطالب الشعبية ومفهومها للإصلاح باعتباره "تغييراً" في منظومة المحاصصة الطائفية وآلياتها المتفسّخة، أو إذا كان المقصود بذلك اعتماد الحيلولة دون إشاعة الفوضى، وتعطيل الآليّات الديمقراطية، وتفكيك ما تبقى منها، للاستناد إليها "فعليّاً" في تشريع وقوننة علنية للإصلاح ، وليس إجهاضها.
إنّ مِن السذاجة القول أو الاستنتاج، بأن النظام القائم قد ولّى دون رجعة، فذلك يؤشر إلى عدم إدراكٍ "لقواعد اللعبة" وشروطها، وفي المقدمة منها إنجاز تغيّرٍ في وعي الناس ومزاجهم واستعدادهم للتحوّل بتجاوز بيئة الاستنفار والولاء الطائفي والعشائري وإدراك أنه السبب الأساس في جعلهم مُهمّشين بقوّة "إرادتهم المصادرة " وتطويعها لخدمة من يُسيئون اختيارهم في لحظة غفلةٍ أو ضعف وعي .
وسيكون العدّ التنازلي لنهاية نظام المحاصصة مرهوناً بالإقدام على تعديل قانوني الأحزاب والانتخابات، والتوجّه إلى ممثلية الأمم المتحدة لإعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات. وبالتزامن مع ذلك، إنهاء ملفات الهيئات المستقلة والدرجات الخاصة، وهو ما يستلزم إصدار قانون الخدمة العامة ومجموعة القوانين والتشريعات التي تنفي ما يكرّس النظام القائم.
وهذه كلّها ينبغي أن تصبّ في التحضير لانتخابات ديقراطية حُرّة .
أمّا الدعوة لـ"الشرعية" بوصفها ، عودة إلى ما هو قائم، فإنها ليست سوى التفافٍ على إرادة الشعب، قبل أن تكون تعبيراً عن نكوصٍ عن الإصلاح، وستقود لا محالة إلى فوضىً لا تُحمد عقباها ..!محالة إلى فوضىً لا تُحمد عقباها..!