قال لي صديقٌ مؤثّرٌ في العمليّة السياسيّة، مختلفٌ أو خارج سرب قيادتها: أسْتَمْتِعُ بما تكتب، ولكن هل تراهن على أصحاب القرار؟ أو على الأقل، هل تعتقد أنهم يقرأون أو يسمعون وفي آذانهم وقر وصار الواحد منهم يردّد مع نفسه ما سبق للرئيس المصري حسني مبارك أنْ قاله عشية الانفجار الكبير الذي أطاح نظامه "دول شويت صبيان خليهم يتسلوا "؟
أعرف أنّ البعض منهم يقرأ، والبعض الآخر يسمع، ويكتفي بالسماع تعويضاً عن القراءة، وليس مُهمّاً بعد ذلك أن يفكّر بما سَمِع. وبعضُ هذا البعض عميق الإيمان بما عنده ، ثقافةً وسعةَ اطّلاع وإدراكاً بأحوال الناس، وإن لم يجد جواباً في كل هذا، فليس عصيّاً عليه أن " يَسْتَخِير".
رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي بين مَن يقرأون، على الأقل ما أرسله له من مقالاتي التي لا تُغني ولا تُسْمِن. ولم أترك فرصة لقاءٍ به دون أن أقول له بعضاً مما عندي، متوهّماً أنها قد تنفع في إصلاح حالٍ من الأحوال، أو تُطفِئ حريقاً يوشك على الاشتعال. وهذا ما يفعله معه قِلّة من الأصدقاء ، كما أعرف، ليس بينهم من يطمح في وزارة أو ينافسه على مَطْمَح.
وقد بانَ أنّ مفعول ذلك القول كان عكسياً تماماً، وهو ما ظهر جليّاً في هذا التخبّط والفوضى السياسية التي عطّلت ما لم يكن ضمن أولويات حزم إصلاحه، كالشوارع والمباني الحكومية ورفع النفايات، وألّبَت عليه من اصطفاهم لإعانته على الإصلاح وهم "أولى" بالإصلاح والمساءلة!
كان عليه أن يُدرك أنّ خزائن الوزارات لم يعد فيها ما يشجّع على التلاعب أو السرقة من قبل وزير فاسدٍ، إن كان يعتقد أنّ بين وزرائه مَن هو لصٌّ فاسد. وما بقي في خزائن هذه الوزارات يمكن أن يُغري الأصغر من الوزير، تَدرُّجاً حتى أسفل سافلين ! ممن يتوجّب البدء بهم لوضعهم خلف القضبان أو تحت رحمة النزاهة، وهو أمر ميسور له، ولا يحتاج الى قرار برلمان أو محكمة اتّحادية. وكان عليه أن يعلم أن مظاهر الفساد مِن حوله تفقأ العين، في مجالاتٍ "رخوة" سرعان ما تُصبح مكشوفة دون رعاية أبواتٍ يمنحون مافيات الفساد الحماية والشراكة و"عباءة " النزاهة ونظافة اليد ووشم التعبُّد والإيمان.
ومن بين تلك المجالات الرخوة الشركات ورجال الأعمال ومنظمات ونقابات تولّت قياداتها مهمة الخَدَم السفهاء لعدي، وهي اليوم كما كانت في عهد عدي وأبيه مُجرّدة من أدنى حدود ما تتصدّى لقيادته. خذوا على سبيل المثال ما يحتاج إليه رئيس تحرير وسيلة إعلامية، أو مدير دائرة إعلام وزارة أو مستشار رئيسٍ لشؤون الصحافة، وقد يطاول ذلك نقيباً لهم. أيعجز السيد العبادي أن يُنظّف بمهماز حصان إصلاحه مثل هذا المُتْرع بالفساد، الموغِل في تفسيخ مجالٍ ينبغي أن يكون الأكثر حِميةً ونظافة ووطنية وإقداماً على كشف المستور من وقائع الفساد وأسباب التدهور والرثاثة والانحطاط؟ كيف لمن يتلفّع برداء الرثاثة والانحطاط الأخلاقي والتاريخ الملوّث أن يكون له مِثل هذا الدور الخطير بمباركة رسمية؟
ولكي أُبرّئ ذمّتي كتبتُ يوماً أقول للسيد العبادي: عزيزي هذا من تراثٍ سلفٍ قيل له من خاصّته في حزب الدعوة " أنّ هذا الذي تُقرّبُه إليك معروف في مدينتنا على نحو مشين"، وكان ردّه " أعرف .. هذه مرحلة تحتاج إلى مثل هؤلاء"! بل أذكرُ أنني قبل ذلك كنتُ قد عرضتُ الحالة نفسها للسيد المالكي في أول استيزارٍ له، فاشتاط غضباً، وقال "سأهدُّ ما هو فيه على رأسه ومن يحميه"، لكنْ بعد بضعة أيام كان يجلس في جواره في الصف الأول .. ! السيد العبادي أيضاً فعل ما فعله سلفه بعد أيام ..!
أعيد في هذا السياق ذكر حكاية الفقير الذي استجاب لنداء كنيسته، فراجعها للعمل ساعوراً فيها، أيْ خادماً. وقد سأله المُشرف على الكنيسة: "هل لديك شهادة الابتدائية؟" فأجابه الفقير: لا، ولكن لماذا وأنتم تريدونني ساعوراً؟ وعاد المشرف ليسأله: وهل تعرف القراءة والكتابة؟ فأجاب أيضاً: لا. ومِن قِلّة حيلته ويأسه هاجر الفقير بعيدأً ليعود بعد سنواتٍ وقد صار غنيّاً، فانتُخبَ رئيساً للكنيسة. وفي احتفال تنصيبه جاءه وجيه من وجهاء الكنيسة مع زوجته متبرّعاً بمبلغٍ كبير، طالباً بركاته بأن يكتب بخطّ يده إيصالاً بالمبلغ، وما كان من رئيس الكنيسة إلّا أن يردّ عليه قائلاً: لو كنتُ أقرأُ وأكتبُ لكنتُ اليوم مجرّد "ساعور" ..!
ومن هنا جاءت فكرة حكومة التكنوقراط، لمَنْ لم يعرفْ بعد . !