كتبتُ محرّضاً رئيس مجلس الوزراء للتحرّك ضدّ معاقل الفساد في قطاعي المال والأعمال اللذين فيهما أبرز رموز الفساد في البلاد، وكنتُ أعني بين مَن أعنيهم حيتان القطاع المصرفي، وفيهم كثـرة من الطارئين على هذا “الكار” الذي يُشكّل شريان الحياة الاقتصادية، والخلل فيه ينعكس وبالاً على المجتمع والدولة وتطورهما.
وقد نشرت “المدى” وثائق دامغة عن فساد هذا القطاع وعبثه بالمال العام، سواء عبر بوابة مزاد العملة، أو الأصح بيع العملة وتهريبها، أو بالوسائل المرئيّة وغيرها من قنوات غسل الأموال وإعادة تدويرها في اقتصاديات البلاد المشتبهة سويّتها.
وكان المُفتَرض أن تكون ردود فعل البنك المركزي، بصفته الجهة المعنيّة الأولى في هذا القطاع والمسؤولة عن الرقابة عليه والعمل على منع المصارف من التجاوز على حقوق المودّعين وأموالهم.. كان المفترض اتخاذ تدابير مشدّدة، لا تكتفي ببعض العقوبات المالية بحق مَن وصفهم البنك “مخالفين” لضوابط بيع العملة، وفي ذات الوقت التنسيق مع الجهات القضائية لمتابعة ما تقوم به ضدّ حيتان الفساد المالي المصرفي. قد تكون إدارة المركزي قد قامت بما تراه اختصاصاً لها، لكنّ الواجب يُحتّم عليها أن تُعمّم ما اتّخذته لحماية المال العام، وتتوجّه لإشاعة ثقافة ماليّة بين المواطنين المعنيين ليتحوّل البعض منهم على الأقل إلى عيون رقيبة تفضح التجاوزات.
وما هو واضح وبيِّن، أنّ البنك المركزي أخفق في حماية حقوق وأموال آلاف المودّعين الأفراد، بالإضافة الى الشركات والمؤسسات وأصحاب المصالح الخاصة، ومنها الجهات والمؤسسات الإعلامية. وهذا الإخفاق والإهمال ظلّ موصولاً حتى الآن، مما عرّض للخطر الجسيم أوضاع آلاف العوائل، المودّعة أو التي تتلقى رواتب ومكافآت من المؤسسات والمصالح المودعة في المصارف الأهلية، وبينها مؤسسة “المدى” التي أودعت ما لديها في مصرف الشمال بدواعي “الثقة المغفلة” برئيس مجلس إدارتها نوزاد الجاف.
ورغم اطّلاع محافظ البنك المركزي وإدارته المسؤولة عن الرقابة على المصارف الأهلية، على هذا الوضع منذ سنة وأزيد، وشكاوى المودّعين الذين اضطرّ البعض منهم إلى بيع موجوداته بخسارة مضاعفة، فإن السيد المحافظ ومعاونيه ظلّوا يلتزمون صمت أبو الهول، وكأنّ تضعضع أوضاع آلاف العراقيين وتعرّض مصالحهم للخطر بسبب سوء إدارة مصرف الشمال والتلاعب بالودائع بأساليب خفيّة، لا تعنيهم ولا تدخل بهذا الشكل أو ذاك في صُلب اختصاصهم.
إنّ أبرز حاملي أسهم مصرف الشمال وأعضاء مجلس إدارته، كما تؤشر الوقائع، وهذا حال مصارف أخرى، اشتروا خلال سنوات عشرات المصانع والشركات والمشاريع العقارية، وهذه الملكيات تُغطّي العديد من المدن ومختلف الاستثمارات، ويُشكّك المتضرّرون من سياسة المصرف بمصادر هذه الاستثمارات، مؤكدين أنها سُحِبَتْ من الودائع الخاصة في المصرف بطرقٍ ملتوية وبعيداً عن حرصٍ ضروريّ بالرقابة الموصولة من البنك المركزي، بل إنّ إدارة المركزي لم تحجب هذا المصرف وأمثاله من نافذة بيع العملة، كما لم تُبادر بوضع اليد على وديعة المصرف الاحتياطية لديها وسحب سجلات الودائع والسحوبات، لتتولى إدارة البنك صرف مستحقّات المودّعين.
ومن بين ممتلكات بضعة مسؤولين في مجلس إدارة المصرف، مجموعة من الاستثمارات تعود لكلّ من السادة نوزاد الجاف وسعد فايق كوله وطارق الحسن وعصام الأسدي: أبراج سكنيّة، معمل سمنت الدلتا، سلة كبيرة من الأسهم في شركة آسيا سيل، أكبر معمل أدوية في السليمانية، معمل جبس في السليمانية، معمل لصناعة علب المشروبات غير الكحولية، مجموعة أسهم في شركة بيبسي كولا بغداد، أسواق في بغداد والسليمانية، فندق بابل، طائرات نقل خاصة، شركة توريد أنواع من السكاير الأجنبية، بالإضافة إلى عشرات الاستثمارات الأخرى وأراضٍ واسعة وعقارات باسم نوزاد الجاف وسعد فايق كوله في بغداد على نهر دجلة، أبو نواس والجادرية، ومنها مضيف كبير. ومن بين المودّعين منظمة كردستان لمساعدة مرضى السرطان التي أودعت 6 مليارات دينار جمعتها من الناس الخيّرين وعشرات الاستثمارات الأخرى.
ويظلّ السؤال، إذا لم يكن هذا الذي يجري في المصارف الأهلية لا يدخل في باب الفساد والعبث المالي، ولا يرتبط بحُزم إصلاح السيد حيدر العبادي، وليس في خانة اهتمام وصلاحية البنك المركزي، فما هو توصيف الفساد؟ وهل البنك المركزي الذي قيل إنّ مليارات الدولارات تسلّلت من نافذته لبيع العملة، ليس بين أهداف الإصلاح والتغيير، أم أنّ إدارته “مصونة غير مسؤولة”؟!
ستتبع في الأيام القابلة نماذج أخرى في هذا المجال مما ينتظر الإصلاح المغيّب عمّا هو ممكن أن يُطلّ على بوابته ولو على استحياء، علّ وعسى أن ينبثق ضوءُ في نهاية هذا النفق المظلم.