كان متوقعاً أن ينتهي الصراع بين الشارع الغاضب والمحبط والدولة الفاشلة إلى ما انتهى إليه من إجهاض عملية الإصلاح، وإعادة الاعتبار إلى فاسدين ومشتبه بسويّتهم السياسيّة. وقد دفع الطرفان المتخاصمان، من منطلقينِ متعارضينِ، هؤلاء إلى الواجهة السياسيّة كدعاة إصلاحٍ وتغيير ومكافحةٍ للفساد.
وتجرّأ بعض أنصار الإصلاح، بلا رويّة أو تفكيرٍ متحصِّنٍ إلى اعتبار كلِّ مَن انحاز إلى المعتصمين في البرلمان، على سبيل المثال، وطنيين يجري التعامل معهم وفقاً لشعار "عفا الله عمّا سلف" .! وقد نسي هؤلاء الدعاة أنهم بذلك يجرّدون مفهوم الإصلاح من حيث الجوهر من قاعدته الفقهيّة القضائية ودعاواه السياسيّة في ملاحقة رؤوس الفساد وتدمير بُنى الدولة وتبديد ثرواتها وتمكين داعش التكفيري من الاستيلاء على ثلث أراضي البلاد وأسر سكّانها، وتخريب الحياة السياسيّة.
ويتحمّل رئيس مجلس الوزراء، بقدر تعلُّق الأمر بالحكومة والدولة، المسؤولية الرئيسيّة عن إخفاق عملية الإصلاح وإجهاضها، باعتماده أساليب ووسائل وأدوات خلت من "الشفافية" ومن برنامجٍ شاملٍ وأولوياتٍ تعالج جوهر الأزمة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، وتفكّك بتدرجٍ تراكميّ المنظومة السياسيّة المبنيّة على المحاصصة الطائفيّة. وتلك كلّها أركان أيّ توجّه للإصلاح والتغيير، بدونها يتعرّى الفعل المهرجانيّ، ويتكشّف عن ممارساتٍ فرديّة تتغلّف بالكتمان والسريّة، لتُخفي عيوبها ومأزقها .
وفي جانبٍ آخر من المسؤولية عن الإخفاق الحكوميّ، تتشارك فيه وتتحمّله بامتياز مع الدكتور حيدر العبادي، الأحزاب الحاكمة وكتلها النيابيّة، وفي الصدارة منها التحالف الوطنيّ "الشيعيّ" الحاكم وقادته المتنفذون، فهم جميعاً ظلّوا متمترسين في مواقعهم، وخلف ستائر مصالحهم، يلوذون بالصمت، والمباح من كلامهم لم يكن سوى محاولات رمي الكرة في ملاعب زملائهم والظهور أمام الشاشات ووسائل الإعلام كفاعلي خيرٍ ودعاة إصلاحٍ ونصحٍ وتقويمٍ. وكلّ قائدٍ من هؤلاء كان يتربّص بالآخرين من زملائه، مناوراً، كلما أتيحت له الفرصة للاستفادة القصوى من التظاهرات والحراك الجماهيري وتعزيز مواقعه وحظوظه في الترتيبات التي يمكن أن تسفر عنها.
الكلّ صار أباً شرعياًّ للإصلاح، والمغدور الوحيد كالعادة كان هو القاعدة الشعبية للإصلاح والقوى المبادرة للمطالبة به، بالخروج إلى الشارع ومواصلة الاحتجاج والاستنهاض الجماهيريّ منذ شباط ٢٠١١.
ولكنَّ جانباً من المسؤولية عن إجهاض عملية الإصلاح تظلّ من حصة المنخرطين في الدعوة له والقائمين عليه والمساهمين فيه، فالإصلاح بطبيعته يتطلّب برنامج عملٍ محدّداً وواضح المعالم من حيث الأهداف والوسائل والقوى والأولويات أيضاً. كما يتطلب قيادة جماعية ترسم سقفاً للإصلاح بحدّيه الأدنى والأعلى. ولن تكتمل خطة الإصلاح، إذا ما اقترنت بالسير به نحو تغييرٍ بنيوي كالدعوة لتصفية نظام المحاصصة الطائفية، دون طرح بديلٍ محدد المعالم والمضامين. وفي الحالة العراقية، يكون شرط هذا البديل، إعلان المبادئ السياسية الدستورية لدولة المؤسسات الديمقراطية، دولة الحريات والقانون والتكافؤ في الفرص والمساواة في الحقوق والمواطنة الحرّة. ويبدو من باب التخدير والالتفاف على الوعي العام، صار إنهاء المحاصصة الطائفية وغنائمها وشرورها وفسادها شعاراً للإصلاح دون إعلانٍ صريحٍ، لا مواربة فيه أو تمويه أو ما يحمل الوجهين، بفصل الدين عن الدولة، أو إبعاد الدين عن السياسة وتحريم استخدامه في الصراع على السلطة السياسيّة، والشروع بتصفية كل مظهرٍ من مظاهر الهيمنة على مفاصل الدولة والحكومة وأجهزتها باعتماد الدين والمذهب ورجالاتها كأدوات للترويع والتحريم وتكفير المختلف سياسيّاً. ورفض الفاسد القائم لن يتمّ باعتماد أدوات الفساد أو رموزه والمتورّطين فيه. والبديل عن المحاصصة ليس سبيله تدوير منظومتها وتكييفها لتعبّر عن مصالح ونفوذ وإرادة بديلٍ مفترضٍ لا يستوفي الشروط التي يتطلبها الإصلاح، بمفاهيمه الديمقراطيّة وإطاره المدني وقواعده الدستوريّة.
الإصلاح كان جوهر التظاهر والحراك منذ انطلاقتهما ومواجهاتهما. وقد ظلت مساعي تخديرهما هاجساً لم ينقطع لقوى السلطة ومنظومتها الطائفية، وما فعله العبادي، كما صار واضحاً، لا فرق بما كانت عليه نواياه، هو إجهاض عملية الإصلاح، وتمكين القوى المضادة من إعادة ترتيب اصطفافاتهم السياسية، مستفيدين كأقصى استفادة من لحظة انفلاتٍ خارج سياقات من كان مطلوباً من سُبلٍ وأهدافٍ وأدواتٍ وشعاراتٍ للاصلاح.
وبين الإصلاح، والفوضى والانفلات، ما صنع الحداد والإسكافي ..