شخّص يان كوبيش، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، الأوضاع السائدة في العراق واصفاً إياها بـ " أزمة عميقة " شلّت الحكومة والبرلمان، لكنه أعتبر أنّ "إعادة هيكلة الحكومة هي الخطوة الأولى لفتح الطريق أمام الإصلاح وتحسين معيشة العراقيين"!
وإذا كانت ترجمة تقرير كوبيش دقيقة، فإنه سيجانب الحقيقة إذا كان قاصداً بهيكلة الحكومة إمرار "خلطة العبادي" لحكومة التكنوقراط المستقلة، بوصفها الحلّ السحري لمعالجة الأزمات المتفاقمة في العراق والخطوة الأولى التي ستُعبّد طريق الإصلاح، فالسيد كوبيش كما يبدو متأثرٌ بما يسمعه من طرف لا يعنيه من وضع العراق سوى تهدئة أو عبور "موجات الضغط السياسي العالي"، وإيقاف عقارب الساعة ريثما تتضح معالم تطور الحملة الانتخابية الأميركية، ومعرفة الوافد الجديد الى البيت الأبيض.
إنّ السيد كوبيش يعرف طبيعة الصراع المحتدم في كواليس السلطة والزعامات المتنافسة عليها، وأدوار كلّ طرفٍ وتحالفاته وتكتيكاته المتغيّرة، وما يتطلّع لتحقيقه من أهدافٍ مباشرة، تبعاً للتحوّلات الجارية ووجهة اندفاع الشارع الغاضب، وانعكاس ذلك كلّه على مناورات رئيس مجلس الوزراء التي باتت مكشوفة و"معدومة الحيلة". ولا بدّ أن يكون قد تنبّه إلى النتائج التي ترتّبت على "جنوح" بعض المتظاهرين الذين انساقوا وراء عواطفهم المجرّدة، وما "ضُخّ" لهم من أوهام، فتحوّلَ جنوحهم، باقتحام مجلس النواب والاعتداء على نواب وموظفين، إلى مُبرّرٍ للأطراف المضادة لاستخدام نفس الوسيلة الخاطئة في فرض الإرادة السياسية، بإنزال قوى الحشد الشعبي إلى مختلف مناطق بغداد، مما آثار قلقاً متزايداً بين سكان العاصمة وأوساط سياسية ليست طرفاً في اعتماد آليات ليّ الأذرع والاستقواء بالمسلّحين التابعين لها في حسم الصراع على السلطة، وليس لتسليك الطريق الآمِن أمام الإصلاح.
من المؤكد أنّ السيد كوبيش وطاقم الممثلية الدائمة للأمم المتحدة، يتطلّعون إلى تأمين أمن العاصمة وسلامة المواطنين فيها، لذا فإنّ عليه أن يأخذ بالاعتبار أنّ ذلك ينبغي أن يتحقق عبر جهاز الدولة وليس من خلال استعراض القوى المسلّحة للأحزاب والكتل المتصارعة. وقد يكون مفهوماً للبعض ردّ الفعل المتأتّي من القلق من وجهة نظر الأطراف المعنية، ولزمن محدود، ارتباطاً بمخاطر وتحدّياتٍ من احتمالات انفلات أمني وفوضى سياسية، لكنْ من غير المفهوم أن يكون المواطن والجماهير المطالبة بالإصلاح ضحية تدابير ارتجالية، تدفع الصراع السياسي بين الفرقاء المتحاصصين في السلطة إلى منازلة في الشارع لفتل العضلات، تُظهر بجلاء عجز الحكومة ورئيس السلطة التنفيذية عن إيجاد بدائل قادرة على بسط "الهيبة" المتزعزعة للدولة بإجراءاتٍ تُعيد الطمأنينة للعراقيين بالانحياز إلى مطالبهم المُلحّة المباشرة، وهي مطالب أوّلية تُعيد للعراقيين "آدميتهم" التي جرى مسخها طوال سنيّ حكومات المحاصصة الطائفية، وهي مطالب وحقوق لا علاقة لها بـ "بهيكلة الحكومة" إذا كان هذا هو القصد مما ورد في تقرير السيد كوبيش إلى مجلس الأمن أول من أمس، الجمعة. وعلى السيد الممثل الخاص للأمين العام أن يكون على يقين بأنّ المطلوب لتسليك عملية الإصلاح، وهو ما ينبغي إشعار السيد العبادي به، هو الشروع العملي بإجراءات إصلاحٍ تتناول أوضاع الناس المعيشية وخدماتهم، والبدء ولو بإجراءٍ يتيمٍ واحد يبيّن فيه أنه على بيّنة من مفهوم الفساد وظواهره ورموزه، وما يراه من أدوات كفيلة بملاحقة الفاسدين وتصفية مظاهر الفساد.
وقبل هذا وذاك، على السيد كوبيش، وأنا واثقٌ أنه سليم النيّة ويريد لمهمّته في العراق النجاح، أن يُصحّح لنا ما ورد في تقريره بأنه كان يعني "إعادة هيكلة الدولة الفاشلة" وتصحيح مسارات العملية السياسية "منتهية الصلاحية" وإعادة الكرامة والهيبة المتُجاوز عليهما إلى المواطن بالاستجابة لتطلّعاته المشروعة، وبأمكان العبادي أن يتجاوز تردّده وضعفه والقيام بتحقيق ما يريده العراقيون، بدلاً من المزيد من التحصينات الكونكريتية التي يُقيمها لإشعار العراقيين أن لا خلاص لهم..!