عالجتُ أمس جانباً مُجتَزءاً من تقرير السيد يان كوبيش الدوري إلى مجلس الأمن، ناقشتُ فيه ما بدا لي كما لو أنه مفهوم البعثة الأُممية للخطوة الأولى على طريق الإصلاح والترجمة الرسمية الموزّعة من قبل الممثلية تؤكد على أنّ " الخطوة الأولى" تتمثّل في " إعادة هيكلة الحكومة"، وهو ما يعود إليه بتعبيرات أخرى ليُبدّد الشكوك حول ما إذا كان يعني ذلك أم لا حين يقول في موقع آخر من تقريره " إنّ تلك الحكومة ( ويقصد حكومة الظرف المغلق المُغَفَّل) وبالنسبة لغالبية المحتجّين العراقيين، لازمة لسنِّ إصلاحات حقيقية تُخلّص البلد من المحاصصة القوية، وتحقيق النجاح في مكافحة الفساد"، مضيفاً " إنَّ ذلك الأمل قد تعرّض لانتكاسةٍ كبيرة في ٣٠ من نيسان، بعد أن اتّضحَ أنّ التصويت لن يتمَّ على مجموعة أخرى من المرشحين للوزارات من التيار الصدري"!
وقبل التعرّض للمفاهيم غير الدقيقة للإصلاح وسُبله، أودُّ الإشارة بأسف إلى أنَّ العراقيين استخلصوا، ربما خطأً، من حصيلة نشاط يونامي في العراق منذ ابتلائهم بنظام المحاصصة الطائفية التي خطَّطَ لها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، كما لو أنَّ مهمة البعثة الأُممية تتلخص في تبنّي وجهة نظر رئيس مجلس الوزراء والمجموعة المتنفذة المحيطة به، وهم لا ينسون ما فعلته البعثة طوال ولايتي السيد نوري المالكي لتزيين صفحة حكومته وعرقلة إطاحته تحت مختلف الذرائع. ومن باب الصدف النادرة في تاريخ السياسة، أنَّ موقفاً موحّداً كان يجمع البعثة مع ماكانت تراه حكومتا الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وهو ما يحصل الآن أيضاً، لكن ليس لنفس الاعتبارات بالضرورة..!
إنَّ الإشارات الواردة في التقرير تؤكد على أنَّ تغيير الحكومة القائمة بحكومة تكنوقراط مستقلة يُعبّر عن رأي غالبية العراقيين، بوصف هذا التغيير طريقاً للإصلاح، وهذا محض خطأٍ وتجنٍّ على وعي العراقيين وإدراكهم لما يعنيه الإصلاح من وجهة نظرهم، وما هي التدابير والسبل الكفيلة بتحقيقه، لأنَّ العراقيين في واقع الحال اكتشفوا بالتجربة ما تعنيه الحِزم الترقيعية الفوقية،التي أعلنها السيد العبادي منذ توليه رئاسة الحكومة، خلافاً لما يريدونه من الإصلاح كوسيلة لتسليك طريقٍ آمنٍ من شأنهِ تفكيك منظومة الحكم الطائفية وما ترتّبَ عليها من تقاسمٍ تحاصصيٍّ للسلطة السياسية وتشاركٍ في مغانمَ ومفاسدَ وتعدياتٍ وخرقٍ للدستورِ "المُعمّى" بتصميمٍ مسبق من المُشرّعين تحت مظلّة بول بريمر ، لجعله "حمّال أوجه" يَخدِش حسّاسية العراقيين الوطنية لما يفرزه من تجاذبٍ مخلٍّ بين الهويات الفرعية، الطائفية والعرقية، مُغيِّباً هويّة المواطنة الحرّة المتسيّدة.
كان على السيد كوبيش وفريقه الأُممي أنْ يتمعّنا بعينٍ سياسية فاحصة، ناقدة، الكابينتين الوزاريتين اللتين خرجتا من عباءة لجنتين يُشتبه ببعض مَن فيهما، مما لا يجعل من اللجنتين "مستقلتين وتكنوقراطيتين ونزيهتين ولا منتميتين..". فكيف بمن يجري اختيارهم وزراء من قبلهما، وكيف سيكون الوزراء المرشحون منهما مستقلين وعرّابي اللجنتين، منتمين وعقائديين إسلاميين ؟ كما كان على السيد كوبيش أن يتنبّه ويُنبّه إلى المخاطر التي يتسبب بها إجراء أي تغييرٍوزاري أو خلافه ، تحت طائلة التهديد والوعيد والتلويح الضمني باعتماد " القوة الكارهة "، وهو ما بدت نتائجه الخطيرة حين ارتدّتْ مظاهر ليِّ الأيدي والإكراه إلى احتلال بغداد من قبل منظمات الحشد الشعبي بذريعة صدِّ تهديداتٍ لأمن بغداد، ولجوء العبادي لسدّ منافد الحياة بتقطيع شرايين العاصمة بوجه المواطنين بمزيدٍ من الجدران الكونكريتية، مما أدى الى حرمان الكسبة من التقاط أرزاقهم، وليس للكثرة منهم سبيلٌ لالتقاطها سوى عبر الطرقات المفتوحة الآمنة. وبالتأكيد كان على الفريق الأُممي، قبل كل أمرٍ آخر، الأخذ بالحسبان أنَّ التلويح بالقوة المسلحة من خارج أجهزة الدولة هو "سيفٌ ذو حدّين"، ونجاح أيّ طرفٍ في "فرض الإرادة " بواسطتها يُشكّل سابقةً تثير حفيظة المُختلِف وتستدرجه لاستخدامها هو الآخر متى ما رأى في ذلك مصلحة له ولحلفائه. وهي في كلّ الأحوال تتناقض كليّاً مع الدعوة لتصفية فوضى السلاح المُبعثر خارج كيانات الدولة.
واللّافت أنّ السيد كوبيش يُبدي ملاحظة غريبة، كما لو أنه اكتشفها توّاً ، إذ يُخبِر المنظمة الدولية " أنّ الأغلبية السياسية العراقية ترفض إصلاحاً جذرياً للعملية السياسية، وتعتبر هذه المحاولات ( قاصداً إعادة هيكلة الحكومة بتشكيل كابينة التكنوقراط المزعومة) عبارة عن جهودٍ ترمي الى نزع الشرعية عن الحكومة أو مجلس النواب فحسب، بل أيضاً عن النظام السياسي برمّته، وتعتبر عمل (السيد مقتدى) الصدر محاولة لتولّي السلطة ارتكازاً على الخلفية الشيعية.. "!. هل كان كوبيش يشكّ لحظة واحدة بأنَّ من الاستحالة بمكان موافقة الطبقة السياسية المهيمنة، على الدولة والعملية السياسية عن طيب خاطر إزاحتها وتجريدها من مواقعها في السلطة؟ ثمّ هل كان يشكّ أيضاً بأنّ السيد الصدر لم يكن ينوي تقويض العملية السياسية لصالح مجهولٍ لا هوية له، أو يترك البلاد فريسة لداعش وخلايا البعث النائمة، وإنما كان يريد تكريس بديلٍ سياسي يُنفّذ برنامجه ورؤيته للحكم؟!
كنتُ أتطلّع الى أن تتضمن رؤية كوبيش خارطة مُبسّطةً للصراع الدائر في قمة هرم السلطة الطائفية، ويفيد مرجعه الأُممي بأنَّ ما يجري من حراكٍ ليس في وجه من وجوهه سوى صراع لإعادة ترتيب البيت الشيعي، يتلازم مع غليانٍ مكبوتٍ متململٍ بين الأغلبية الصامتة المغلوب على أمرها، يجري الإنابة عنها بحشدٍ صدريٍّ آتٍ بقرارٍ من سائر المحافظات الشيعية الغاضبة المستلبة الإرادة.
ولستُ في حالة من الشكّ بإدراك البعثة ورئيسها، بالأولويات التي ينتظرها العراقيون من الإصلاح كمَعْبَرٍ لانتشالهم من الرثاثة التي صارت عليها حالتهم. وهو ما يتطلب من كوبيش التأكيد عليها مع العبادي وتبصيره، خلافاً لما جاء في تقريره الأًممي، بأنّ طريق الإصلاح يبدأ من بسط الأمن، وهو يستلزم تطهير القوات المسلحة والأمنية وتأهيلها، وإعادة موضعة وخطط القوات المكلفة بحماية بغداد بما يُمكّنها من إيقاف نزيف الدم المراق بلا وجع قلبٍ من المتصارعين على السلطة. والإصلاح، الى ذلك، يتطلب معالجة فورية باستخدام كل موارد البلاد المادية والفنية والبشرية لتوفيرٍآنيٍّ لا يقبل المرواغة والتأجيل للطاقة الكهربائية قبل صعود شمس الصيف اللاهب، وتسييل الماء الصافي لمواطني البصرة والمدن الأُخرى المحرومة منه، وتأمين المستلزمات الخدمية الضامنة "للسويّة الآدمية" للعراقيين. وبالتزامن مع هذا بوصفها مهمات مُلّحة، إنجاز كل ما يدخل في باب صلاحياته كرئيسٍ للسلطة التنفيذية، ولا يقتضي قراراً من البرلمان أو استشارة من قادة الكتل السياسية والتحالف الوطني بالذات.
ويبقى على كوبيش أن يستثمر الوقت المُضاع من حكومة العبادي والفراغ المرتبط بالأزمة السياسية المتقلّبة ، فيقترح طائفة من الإصلاحات التشريعية الكفيلة مستقبلاً بتسليك الإصلاح الجذري، وفي المقدمة منها تعديل قانون الانتخابات، واعتماد خبرة الأُمم المتحدة في تشكيل المفوضية العليا للانتخابات، والإسراع في تسمية قوام مجلس الخدمة العامة، وتطبيق الخدمة العسكرية الإلزامية.
ويمكن للأُمم المتحدة أن تقدّم خدمة كبرى للعراقيين باقتراح فريق أمميٍّ مشهودٍ له بالكفاءة والخبرة والنزاهة، يتولّى مساعدة الحكومة العراقية في وضع آلياتٍ وأسسٍ وأدواتٍ لإيقاف هدر المال العام وكشف الفاسدين ومظاهر ومراكز الفساد واقتراح سُبل الاستقصاء عنها وملاحقتها قضائياً.
إنَّ السيد كوبيش بإمكانه تحقيق الكثير من ذلك قبل انتهاء الانتخابات الأميركية وتحديد مهام ما بعد ولاية العبادي، وقد تكون مهمته في العراق هي الأخرى أوشكت على نهايتها.
يبدو أنَّ الصديق يان كوبيش وهو يُفكّر بتقريره، مأخوذاً بزحمة المتظاهرين، أضاع طريقه فلم يجد نفسه إلّا وهو في مسجدٍ لا مُؤذِّن له..!