تكاسلتُ اليوم، وشعرتُ بأنْ لا رغبة عندي للكتابة. وازداد هذا الشعور مع مطالعتي صحيفة اليوم، ووجدتُ أنها خالية من الإثارة. ليس فيها ما يُغري، فالتفجيرات تزداد وتيرة ، وأعداد القتلى هي الأخرى في تصاعد. ثم ليس بينهم شخصية لافتة، مثيرة للاهتمام.
حاولتُ أنْ أعثـر على ما هو هامّ ولافت وجديرٌ بالمتابعة، فانتقلتُ إلى التحركات السياسية في مكتب رئيس مجلس الوزراء ومكاتب قادة التحالف الوطني والوطنية ومتحدون ومجلس النواب، فازداد شعوري بالعُزلة عمّا يدور حولي.
وللحظة توهمتُ أنني في حالة من اثنتين، إمّا أنني أحلم وتتلبّسني كوابيس، وهذا جائز بسبب تصفّحي قبل النوم فجراً كتابات لفرويد وحوله، وإمّا أنني بدأت أنزلق إلى عالم النسيان ، فأنا لستُ أنا أو أنني " أيّاً كان، وفي أيِّ مكان كان غير المكان الذي يُفتَرض أنّي ولدتُ فيه "!
ليس في شعوري هذا الذي وجدتُ نفسي فيه ما هو غريب ومُستهجن، وللحظة أخرى انتابني هاجسٌ غريب. أيُعقل أنني كنتُ مخدّراً طيلة السنوات التي مرّت عليّ ، منذ عودتي الى العراق ، في شهرٍ ما بعد نيسان ٢٠٠٣ ؟ كيف يمكن لي أن أكون مُخدّراً، وأن عودتي من الخارج كانت عادية ووسيلة نقلي إلى بغداد كانت سيارة عراقية يقودها صديقٌ فَرِحٌ بعودتي ، محاطاً بزمرة من الأصدقاء المغامرين الذين لا يخشون مكروهاً، وليس على ظهر دبابة أميركية كان من المحتمل أن أكون قد خُدِّرت لو كنتُ راكباً إياها.
لَهَوتُ وأنا أُحصي قتلى اليومين الأخيرين. حاولتُ تحديد مناطق التفجيرات والقتلى والبحث عن بعض أسماء الضحايا. لم أجد إثارةً في الأمر. عشرات من القتلى في كلّ تفجير، وأكثر منهم جرحى ، وعشرات السيارت والمحال وعربات الحمل اليدوية مُدمّرة. كنتُ مهموماً وأنا أُتابع الأخبار والأرقام والتصريحات وردود الفعل. لم أجد حولها سوى إشاراتٍ تُشبه ما آلت إليه أوضاعنا. لقد "تراجعتِ العمليات الانتحارية، وأصبحت تحت السيطرة " ،وخبرٌ يكاد يرتقي إلى مُنجزٍ صادم: كبس شبكة تابعة لـ" ولاية بغداد " الداعشية نائمة تُخطّط لاستهداف زوّار الإمام الكاظم في بغداد، بعملية استخبارية استباقية نوعية، وعرضٍ لصور أعضاء الشبكة!
لم يتغير مزاجي المتقلّب، ولم أشعر بالاستثارة، فمثل هذه المنجزات تكاد تكون يومية. كما لم أُفاجأ بخبرين آخرين في سياقٍ متصل، أولهما تفجيرٌ لاحق بكبسة العملية الاستخبارية، والثاني الإعلان عن انسحاب قوة تابعة للحشد الشعبي من إحدى مناطق بغداد، والإشارة إلى أنها تموضعت في موقعها لحماية الزوار، وانسحابها يرتبط بنجاح المهمة .! حاولت أن أستثير نفسي بأيِّ وسيلة، كيف نجحت المهمة، وماذا عن خبر التفجير والقتلى. لا مجال للاستثارة، فالتفجير كان بعيداً عن التموضع الحشدي. انتقالاتي بين الحوادث والأخبار لم تُجدِ نفعاً في الإثارة ولفت الانتباه، لكنَّ اجتماع الوقفين السنّي والشيعي كان مثيراً. إنهما يطالبان بخطواتٍ عملية لمواجهة الإرهاب والدول الداعمة له. وفي العمود المجاور لخبر الوقفين وزارة التخطيط تكشف أنَّ حجم الخسائرالناجمة عن العمليات الإرهابية بلغ ( ٨ .٣٦ ) ترليون دينار منذ عام ٢٠٠٤، واحتلت وزارة الدفاع المركز الأول في حجم الأضرار. شعرتُ بوخز خفيف في مكان من وجداني، وماذا عن مئات آلاف القتلى والجرحى والمعاقين؟ وماذا عنهم، من يُبالي ، إنّهم مجرّد أرقام لبشرٍ في قاع المجتمع، على هامشه، لن يتركوا فراغاً ولا أحد يبحث عنهم. لم يترك الوخز في نفسي أثراً مُمضّاً، فقد صرتُ واحداً منهم، أعيش بينهم وأتنفس هواءهم المُتخم بروائح العفونة المُصنَّعة وطنيّاً. علينا جميعاً أن نتكيّف مع ما صار مع الأيام والسنوات عادة واعتياداً في "شُبه وطنٍ" بعد أن صرنا في شِبه دولة فاشلة، وشِبه حكومة مدوّرة، وشِبه عملية سياسية منتهية الصلاحية، وأشباه زعاماتٍ تجرّدت من الحساسية الإنسانية بعد أن طالها كلُّ ما في العالم السُفلي من شُبهات واشتباهات ..
الجبوري يتوعّد المتطاولين على مجلس النواب، ويُحدِّد من أربيل الثلاثاء موعداً لانعقاد البرلمان، والتحالف الكردستاني ينفي الحضور بلا ضمانات. العبادي يردُّ على القائلين بسقوط الحكومة إذا لم تعقد اجتماعاً لثلاث دورات ويُردّد مع نفسه "لنحتكم للدستور، والمحكمة الاتحادية خير حكم "، وهو يعرف أنَّ كلَّ شيء صار مباحاً في ظلّ وضعٍ لم يعد يُشبه أيّ وضع. ولم أجد نفسي ملزماً وأنا في حالتي النفسية غير المستثارة بأن أعرج على القصر الرئاسي، إذ ماذا يمكنني أنْ أقول على عتبته وكلُّ مَن فيه مشغولٌ بالبحث عن أوليّات صياغة الدستور والفقرات التفسيرية لموادَّ حُذفت من متنه دون أن يأخذ باله لِمَ حُذفتْ مع أنَّ المادة من دونها فقدتْ معناها، ولم يعرف مَنْ كان وراء الحذف مع أنّه لم يكن موافقاً عليه .
أنتقلتُ من الجريدة إلى التلفزيون. بعد دقائق وجدتُ نفسي وقد عادتْ لي الروح. عُدتُ إنساناً مرهف الحسّاسية، مشدوداً إلى صباي، وأنا أرقب أبي وهو متعبٌ مهدود الحيل مكدودٌ يجرُّ عربةً مُحمّلةً بعد أنْ عاد من دوامه اليوميّ المرهق لكي يُوفّر لعائلته ما يحمي كرامة أفرادها، ويكادُ يسقطُ لشدّةِ التعب .
أجهشتُ ببكاءٍ حارقٍ على وطنٍ تلهو فيه الزعامات عابثة بحياة الملايين غير عابئة بمصائرهم، وأنا أُتابع وجوه عمال المسطر في بغداد وهم يُعيدون لي ذكرى أبي وقد انْحنى ظهره ليحميَ كرامة أُسرته، وأحدهم يجيب على سؤال مقدِّمة برنامج نبض الناس: لم أعمل منذ ثلاثة أسابيع، وقد تفضّلَ عليّ عمالٌ معي اشتغل الواحد منهم بضعة أيام فجمعوا لي خمسة وعشرين ألفَ دينار، بقي منها عشرة تكفيني لشراء رغيفين من الخبز إلى أنْ يأتيني الفرج ..!
جاءت شقيقتي وقد انتبهتْ إلى بكائي وأنا أُردّد: أبي ....
ظنّتْ أنني أبكيه، فانخرطتْ هيَ الأخرى في البكاء، فأشّرتُ لها نحو التلفزيون وصور عمّال المسطر، وأنا أُردّد : أبي ....، يا أولاد زِنى النهب والفساد ..!