مرَّ زمنٌ على البلدان العربية كان يجري التلويح فيها بـ " اللبننة" كلما ظهر في الأجواء السياسية ما يُنذر بفتنٍ طائفية وعرقية. وقد تراجع شبح اللبننة مع صعود الشبح الطائفي المتقاتل في العراق بعد نيسان ٢٠٠٣ من رحم النظام السابق وانبعاثه من رماد مُخلّفات الأحقاد الدفينة وصِدام المصالح والمطامع التي مزّقت النسيج الوطني العراقي، فحوّلت العرب إلى سنّة وشيعة، بعد أن كانت قوميّة واحدة تتشارك مع القومية الكردية والقوميات والإثنيات المتآخية.
أول من أمس أظهرت النتائج الأولية للانتخابات البلدية في لبنان، بشكلٍ واضح المعالم، نتاجاً جديداً لـ"اللبننة الكامنة" تُعزّز قناعة المتشككين بأنّ "المال والأعمال" عابرة بلا تحفّظ للأديان والطوائف والمذاهب والعِرقيات. وكشفت الانتخابات بوضوح "الطبيعة الهشّة" والثانوية للصراع بين بيوتات المال والأعمال والتناقضات الثانوية والاختلافات السياسية بين أقطاب الطوائف وزعاماتها، إذا ما واجهت خطراً يستهدف القاعدة المشتركة لمصالحها وهيمنتها تحت واجهة الدفاع عن خيارات طوائفها.
وإذا كان هذا الاصطفاف الطبقي بين بيوتات المال والأعمال والطبقة السياسية التي تُعبّر عنها من كلّ الطوائف، ليس بظاهرة جديدة، فإنّ الجديد فيه هو حالة الاستنفار العلني الذي أماط اللثام عن استعداد كلّ أطرافها دون استثناء، في لحظة خطر طارئ، على تجاوز خلافاتها وصراعاتها التي كانت وراء شلل لبنان سياسياً، بعد أن بات بلا رئيس، بينما تدهورت الحياة الاقتصادية والاجتماعية لتتحوّل بيروت بسببها إلى مكبِّ نفايات تفوح نتانتها وتتوزع على الأحياء والبيوت وتتهدّد البيئة وأحوال الناس بويلات أمراضٍ وأوبئة ومضاعفاتٍ لا تُنبئ بنهاية قريبة.
وقد ينطبق القول المأثور " رُبَّ ضارّةٍ نافعة " على هذه الحالة التي رافقت الانتخابات البلدية في بيروت وفي عددٍ من مدن وبلدات البقاع وخصوصاً في بعلبك، إذ فضحت حقيقة دعاوى الطبقة السياسية من مختلف الطوائف والأحزاب، وعرّتْ شعاراتهم والأهداف الخفية من وراء صراعاتهم المُغلَّفة برداء الطوائف، وأظهرتها كلها باعتبارها مُجرّد أدوات عملٍ ووسائل تمريرٍ لمصالحهم الفئوية الطبقية.
لكنَّ ذلك الانكشاف والتعرّي والاصطفاف المشبوه لم يكن بمعزلٍ عن مُحرّكٍ شجاعٍ وجسورٍ ومتفانٍ. ولم يعتمد هذا المحرّك على أساليب تقليدية "كسولة" اتّكاليّة، بل تجاوزها بذهنٍ متفتّحٍ وابتكاراتٍ في الرؤى والأدوات، تماماً كما تجاوز كلّ الحواجز الطائفية والمذهبية والدينية بإشاعة ثقافة التوحُّد حول المصلحة المشتركة "بيروت مدينتي"، وبلورة قيم النظافة ضدّ قيم الفساد ومنصّته الفاضحة "نفايات بيروت وريحتنا فاحت"! . ويعكس الجانب الحيويّ المبتكر الجسور لهذا التجاوز، في نشاطٍ مبرمجٍ متواصلٍ دؤوب خلّاق للحراك بين كلّ مَن له مصلحة في تغيير أحوال مدينتهم بيروت، ورفع مستوى استعدادهم واستنهاضهم للمشاركة في النشاط والتعبئة.
ما كشفَ زيف ادّعاءات الطبقة السياسية الحاكمة، إرادة مجموعة "بيروت مدينتي" وهي تضمّ لأول مرة قائمة متناصفة بين النساء والرجال، وتنوّعاً في الفئات العمرية والاختصاصات والكفاءات القادرة على جعل بيروت أنظف بكلّ المعاني. ولم تقف إرادة "مدينتي بيروت" عند هذه الحدود في ابتكار أدوات تجاوز التقليد والمحافظة، بل جعلت من الاندفاع في فرض الحضور "عملاً تطوّعيّاً"، تنبعث دوافعه من قناعة وإيمانٍ عميق بتحويل الاحتجاج السلبي إلى نشاطٍ دؤوبٍ لا تنال منه "الموسميّة" ولا تتحكّم فيه الأهواء والأمزجة التي تتناقض والهدف المباشر. ومن دون تضافر هذه العوامل مجتمعة، كان من الاستعصاء بمكان أن تستنفر عصبة "بيروت مدينتي" أقطاب الطوائف والطبقة السياسية وتوحّدها في لحظة هلعٍ لمواجهة هذا النجم الشعبي النذير، ولتؤكد بهذا الاستنفار أنها تعيش زمن عدٍّ تنازلي يفرض حساباتٍ جديدةٍ على الطبقة السياسية وقواعد غير معهودة في لعبة صراعها على السلطة عبر اغتصاب إرادة طوائفها.
وإذا لم تستطع "بيروت مدينتي" أن تفوز في الانتخابات، فماذا يعني إذن حصولها في الدائرة الاولى على ٦٠ بالمئة من أصوات الناخبين؟..وماذا يعني تحقيقها نسبة تقارب العشرين بالمئة من مجمل أصوات الناخبين المقترعين؟ ولماذا لم يشارك في الاقتراع سوى ١٨ بالمئة أو أكثر قليلاً؟ أليس الاستنكاف تعبيراً عن يأسٍ من التغيير ويمكن أن يكون عامل حسمٍ في جولات قادمة اذا أمكن الوصول الى الناخبين المستنكفين وإشاعة الثقة في نفوسهم بأنّ النجاح ممكن اذا تجاوزوا هم التزام الصمت السلبي..!
أكتب عن بيروت مدينتي لأُطلّ على مشهد "بغداد منكوبتي" و"العراق إيقونتي" والمدنيين المداومين على الاحتجاج والتظاهر لعلّ فيها فرصة تجاوزٍ للتقليدي على كل صعيد، "الشعار والاساليب والادوات والمهام والاهداف الملحّة المباشرة منها والبعيدة".
اللبننة هذه المرة تُقدّم لنا في تجربة حديثة، وبصيغة جديدة مفادها أنّ الطبقة السياسية لا تستسلم أمام شعار، ولا تتصدع بفعل هتاف مطلبي، والنظام السياسي للمحاصصة لا يتفكك إلّا بأدوات بديل مناقض لجوهره في الآليات والاهداف، وعبر استنهاضٍ جماهيري واسع شرط أن يرتبط بعمل متواصل متعدد المهام والاغراض والاهداف، على أن يقود ذلك الى تغييرٍ نوعيٍّ في موازين القوى، يتلازم مع رفع مستوى الاستعداد وتجفيف مصادر الوعي والانغلاق الطائفي.
هل لبغداد من منادٍ ومنذرٍ بوعدٍ مختلفٍ يؤسّس لنسقٍ جديدٍ للتغيير والإصلاح، يتسلّل بين الناس المُعذَّبين يشاركهم همومهم وينتزعهم من حالة الخدر والاستسلام والتشظّي؟
أيكون لبغداد صوتٌ لا مثل كلّ الأصوات، وليس لغيره من ندٍّ أو بديل؟