حين أُحاولُ مراجعة وقائع تاريخٍ انتهى بنا إلى ما نحن فيه، فلستُ قاصداً بذلك الإساءة أو التشفّي بالحركات والأحزاب القومية التي فشلت في تحقيق برامجها وشعاراتها وأمانيّها في تحقيق حلم وحدة العرب. نهاية القرن العشرين شهدت انكساراً وتراجعاً وانزياحاً للحركات "الثورية" وفشل البرامج التغييرية الجذرية للواقع البشري، ليس في العالم العربي فحسب. وقد انهدَّ مثل حُلم كابوسي صرحٌ شيّدته "جماجم ودم" عشرات ملايين البشر في ما كان يوماً يسمّى "الاتحاد السوفييتي" ويشكل القوة الموازية للولايات المتحدة، ومعه عادت الإنسانية المعذَّبة تبحث لها بين مواجعها عن انبعاثٍ جديدٍ لحلمٍ ممتنع.
وكلما راودنا، في هذا المحيط العربي الصقيعي، أملٌ بالانبعاث من تحت الأنقاض والخرائب التي خلّفها لنا حكّامنا "الوطنيون والقوميون التقدميون"، لم يكتف القدر بمنحنا سراباً، بل مزيداً من الويلات وأكواماً من مخلفات الدمار والانسلاخ عن مجرى الحضارة الإنسانية وصعودها، ليصبح الأمل بالنهوض رماداً ينتظر انبعاث خيوط دخانٍ لعلّ البياض يتبين فيه.
وأكاد كلما ألتقط خيوط دخان أبيض، ينتابني الشكّ في صدق رؤياي لكثرة ما باغتتنا الصدمات في لحظات الإحساس بالتحوّل من الرثاثة الى انزياح آثارها وتصفية منابتها. ولعلّ الربيع العربي وقد أصابه الخرف المبكر قرينة لم نفقْ بعد من آثار صدمتها المُربكة، المخدّرة.
وماذا ظلَّ حولنا لنتكئ عليه ونتحسس مواقع خطواتنا من المجهول الذي صرنا فيه، في عراقٍ ظلَّ حقل تجارب لم تنقطع طوال خمسة عقود ونيِّف، تجارب لامتحان طاقة البشر على حمل عذاباتٍ تفلّ الحديد، وطاقة أرضٍ صارت يباباً، من أشباه بشرٍ لا يشبعون من نهب الأخضر واليابس، حتى أنه ليس من العسير تشبيههم بأسراب الجراد في موسم إتيانه على كلّ ما هو أخضر ويابس. وما يُميّز جرادنا البشري بالغ الشراهة، أنه جَلِدٌ أمام كلّ المبيدات المكتشفة، قادرٌ على التكيّف والتلوّن والتحوّل، وحسبنا انه يتميز برداء التعفّف والتديّن والتزلّف والإيمان الكاذب، وفي هذا وحده لوطننا وشعبنا عذابٌ أليم..!
لقد وأدتْ أقدارنا وأحوالنا شعارات "وحدة الامة العربية"، لتزحف علينا شعارات "وحدة الامم الإسلامية" بكل تفرعات هوياتها المذهبية والقومية أيضاً، وما فشلت في تعبئته " القومية" نجحت فيه "خليفتها" المتلفّعة بعباءة الدين والمذهب في تجييش جهاديين لم يعرف البعض منهم صحيح لفظ البسملة أو قراءة آية من سورة مريم، سوى حدّ السيف في رقاب مسلمين "كفرة" ارتدّوا عن شعيرة النبي بالتخلي عن لباس الصحابة المسلمين الأوائل وإطلاق اللحى ولفائف الحجاب و "نكاح الجهاد" وحلال " سبي الإيزيديات" والإيقاع بهنّ بين الصلاتين..!
وما فشلت الأحزاب القومية على امتداد عشرات العقود من تحقيقه، نجحت هذه القطعان في تحقيقه بتوحيد الأُمّة على الحرمان والذلّ، لكنهم معاً نجحوا في " تخليق" الفساد عابر الأديان والطوائف والأعراق ليسود وليتسيّد وليوحّد المصائر، فالدول العربية " الإسلامية" صارت تتشابه في ظروفها وأجندات حكامها وأهدافهم. وهذه العوامل مجتمعة قللت أو كادت تزيل التفاوت في مستوى التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين أقطارها.
والتفاوت المتزايد بين العرب ودولهم وحكامهم كان سبباً رئيسياً من أسباب تعذّر وحدتهم، وانقسام العالم العربي بين دول غنية "رجعية مستبدّة " ودولٍ فقيرة "متحررة وطنية" كانت العلامة الفارقة لمرحلة الخمسينيات والستينيات وشطراً من السبعينيات، قُبيل استيلاء العسكر "الوطنيين" على عدد من الدول العربية الغنية بثرواتها النفطية. وبذلك الاستيلاء أضفت "خلطة تنويعية " على خارطة الانقسام، وأعادت توصيفه على أساس الانظمة السياسية "الرجعية المستبدة" والأنظمة "الوطنية التقدمية" التي تشكّلت من مصر وسوريا والجزائر وليبيا واليمن الديمقراطية والعراق، لتتجاذب الخلافات أنظمة هذه الدول فتنقسم هي الاخرى الى دول "ممانعة" ودول " منبطحة"..!
وخلال عقدٍ من حكم العسكر الوطنيين في البلدان الغنيّة بالثروة النفطية، وتحت شعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين، تحولت دول " الممانعة والانبطاح" على السواء بوتائر متسارعة الى أنظمة "شمولية وطنية ومستبدة" تحت ذات الشعارات التحررية الوحدوية، لا يجاريها في وسائل الحكم والبطش من بعض "الأوجه المستحدثة" في القمع والتصفية السياسية وتعذيب الخصوم حكّام الدول الغنية بأنظمتها " الرجعية الشمولية"..!
وقد استطاع الحكّام " الوطنيون التقدميون" بمهارة استثنائية تبديد ثروات بلدانهم وإفقار شعوبها، وتوظيف طاقات البلاد وثرواتها لخدمة الأطماع التوسعية لبعضهم وتصدير أزماتهم عبر حروب داخلية وخارجية كان الهدف النهائي منها تكريس سلطاتهم المطلقة، وتجريد الدولة من مقوماتها وإنهاء أي مظهر للحريات الخاصة والعامة.!
وبدلاً من "رمي إسرائيل" في البحر تحوّل العالم العربي بمشرقه ومغربه، بدوله الغنية وأقطاره الفقيرة الى "باحة رقص" فارهة يتهادى فيها الحكام والزعماء العرب بالرقص الشرقي العربي المميز على أنغام الكنيست الإسرائيلي، وفوق رؤوسهم لوحة خُطَّ عليها بحروف ذهبية "فلسطين من البحر إلى البحر والقدس عربية " دون قلقٍ من اندفاعات شعبية وانقلابات وطنية تثأر للكرامة العربية المهدورة وشعار المقاومة والتحرير والعِزّة الوطنية والقومية.!
لقد بات التفاوت بين الشعوب العربية في المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في حالة تدنٍّ متواصل كل يوم، وتتقاسم الأنظمة العربية عواصف الأزمات الاقتصادية والعجز المالي ليجعل "الحال من بعضه"، يتميز بعضها عن البعض الآخر بحجم ثروتها ومواردها ومظاهر الفساد فيها.
وما لم تستطع دول المقاومة والممانعة العربية من تحقيقه في إفقارنا وإذلالنا، جاء الإسلام السياسي، على الجهتين، لينزع ما تبقّى لنا من حرمات عبر التحريم، وما بقي لنا من أمل بحياة بشرية كريمة، بوعدٍ مؤجّلٍ في الجنة، ومن دعاءٍ بنهاية رحيمة بمشيئة الله، ذبحاً أو تفجيراً أو موتاً من الفاقة والكمد في بيوت الصفيح أو على قارعة الطريق بفعل مجهولٍ يتنكّر بزيٍّ حكوميٍّ " مزوّر" ...
ما صار مؤكداً اليوم أنَّ ما وحّدَ أقدارنا، بلا رادع، هو الوحيد عابر الأديان والمذاهب والقوميات والأعراق والألوان:
- الفساد.. ومن لا يصدّق ليس عليه أن يتلفّت...!