يتحوّل قتل فقرائنا المهمّشين في حزام بغداد والأحياء المنسيّة إلى مهرجانٍ يوميٍّ للموت العبثي المجاني، وكأن استباحة دمائهم فقدت كل معنى إنساني، وسط صراع حيتان السلطة والفساد العام على تقاسم المغانم والمواقع الوثيرة. وتزداد مواكب الشهداء وهي تتسارع الى مراقدها الأبدية دون أي مظهرٍ للمبالاة من الطبقة السياسية المهووسة بأطماعها وتطلعاتها المشتبه بها، ويُصبح لشبه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفقراء المعدمون من أي وسيلة للعيش الكريم، معنى وحيداً، تختزله الأخبار الرسمية بعدد القتلى والجرحى، وتكاد وهي تستعرضها أن تكذب مرتين، مرة وهي تُخفي أعدادهم، وأخرى وهي تحاول إمرار خديعة مفضوحة مفادها تراجع عدد التفجيرات، وأن عمليات المداهمة الاستباقية لأجهزة المخابرات وعمليات بغداد تُحبط محاولات استهداف مناطق جديدة آهلة .
وتظل السلطة بكل أركانها مشغولة، بلا قدر من الحياء وشعور بالمسؤولية الإنسانية وفي الواقع الدال على تراجع شعورها الوطني، بعقد اجتماع مجلس النواب لاستكمال كابينة العبادي التكنوقراطية، في حين أنّ حكومة رشيدة تقدر مسؤولياتها إزاء شعبها، تترك كل أمر آخر في مثل هذه الظروف وتدعو للاستنفار الوطني العام لمجابهة الإرهاب وتحويل كل مواطن في كل بيت وحي وشارع الى عين حارسة لكشف مخابئ الخلايا النائمة وتصفية حواضنها.
إنّ العراقيين اليوم بحاجة الى حكومة وطنية موحدة موصوفة بالكفاءة والقدرة على تعبئة القوى وتوحيد الصفوف، وليس الى استكمال "نقص نصاب" الحكومة الترقيعية التي يريدها العبادي، بادعاءٍ للإصلاح ثبت بالبرهان بطلانه، وتسببه بهذه الفواجع المتصاعدة من حيث وتيرة التفجيرات أو الموتى الشهداء. ويكاد الشكّ يستولي على عقول الناس من هذا التهاون واللا أُبالية العبثية التي تتعامل بها الطبقة السياسية المتنعّمة، هي وأسرها ومريدوها المحيطون بها، بالأمن وبحبوحة العيش، إزاء تسيّد النشاطات الإرهابية المنفلتة في حزام بغداد والأحياء الفقيرة دون أنْ تقدِم على أي خطوة تبدو أنها تعبّر عن الاهتمام والجدية في وضع حدٍّ نهائي لهذا الوباء الذي لم يحل بالعراقيين وباءٌ أشدّ هولاً وبشاعة منه.
كيف لا يتسلل الشك والريبة الى النفوس المستضامة، حين يتابع العراقي مشهداً مماثلاً واحداً ليومٍ واحدٍ أقل خسائر في الارواح والممتلكات وأدنى هولاً في أي بلدٍ في العالم، إلّا ويجري فيه الاستنفار الوطني وتوجه النداءات للمشاركة في مواجهة ما حلّ بمدينة أو قرية من مصاب أليم وتسارع الحكومة التي تحترم نفسها الى اعتبار ما حلّ نكبة ..!
لا، هذا لا يمكن أن يجري في هذه الدولة الفاشلة التي لا تستحقّ أن يقال عنها سوى شبه دولة لا حياء لحكّامها ولا حرمة لطبقتها السياسية. كيف يمكن أن يكون غير هذا، وقد تسبّب حكّامها في وضع ثلث البلاد تحت سيطرة قطعان داعش، وفي نهب مليارات الدولارات من خزائنها، وكانوا وراء تعريضها الى الإفلاس وهي على حافته الآن؟ لا فرق إن كان هؤلاء الحكّام في السلطة أمس أو اليوم، ما دامت الطبقة السياسية هي نفسها التي جاءت بهم الى كرسيّ الحكم ومكّنتهم من تلك الاستباحات، وهي التي تحميهم من الملاحقة أمام القضاء، وتتمنّع رغم دعاواها بإجراء الإصلاح وملاحقة الفاسدين، من تسليط الضوء على جرائمهم وفسادهم وتخريبهم للمنطقة الغربية والموصل وتوابعها ووضع أهلنا السنّة ومصائرهم تحت سلطة داعش التكفيرية التي لا دين لها ولا مذهب.
في زمن الموت في أقبية الأنظمة "الوطنية والقومية التقدمية" الشمولية، كان لسبب الموت أن يظل سرياً، مكتوماً، وأن يُساق الميت الى قبره وحيداً بلا موكب تشييعٍ ولا مراسيم عزاء، وبين فترة وأخرى كان ممكناً الإعلان عن موتٍ من بين قوافل الموتى قتلاً تحت التعذيب، مشفوعاً بنهاية غامضة أكثر هولاً من القتل نفسه: "قضاءً وقدراً " ..!
لكنّ صورة الميّت محمولاً على الأكتاف في موكب تشييع مهيبٍ افتراضي، يعيش في ذاكرتنا ، ويحفر في وجداننا متحولاً الى بكاءٍ مكتومٍ، ومحاولة إيقاظ غضبٍ ينذر، يُمهل ولا يهمل.
كنا نسترجع مشهد شهداء سجون الأنظمة الرجعية وأقبية تعذيبها، كيف كان تشييع كل واحدٍ منهم يتحول في مسقط رأسه الى موكبٍ حاشد يندد بالحكام القتلة، وكيف يصبح الشهيد في لحظة غضبٍ شعبي الى انتفاضة تُسقط الحكومة أو وثبة تُطيح بها وتمزق ما أبرمته من اتفاقياتٍ تنال من قدسية الوطن وتؤسر خياراته.
كان للموت يومذاك مهابة التضحية في سبيل وطن مرتجى، وكان للشهيد مقام الأولياء يرتفع نعشه فوق هامات الوطن على امتداده.
يومذاك لم يكن للموت هوية أو سجّل قيدٍ أو تعريفٍ يحمل معنىً يُغري بانتماءٍ للطائفة أو العشيرة او القومية، سوى باقة وردٍ على امتداد النعش يكتب عليه "شهيد الوطن" . ما أن يسقط شهيدٌ حتى يستنهض بتضحيته العشرات والمئات والآلاف، يهتفون في أرجاء الوطن: نفديك يا شهيد، نم قرير العين، لا تخف، سنكمل المشوار ..!
ولم تكن أصداء موتانا الشهداء، تتردد في أرجاء البلاد لأمد قصير ثم تصبح ذكرى ويطويها النسيان. كانت مأثرتهم تنتقل الى دولٍ وقارّات، وتخطّ في شعارات متظاهرين يجوبون شوارع العالم منددين بالتعذيب والقتل وانتهاك الحريات. وإذ تترجم أسماؤهم الى لغاتٍ أخرى تصبح تميمة ونموذجاً إنسانياً للإثرة والمثل على البطولة .
ولنتبع مشهد موتانا اليوم. إن أشلاءهم تُجمع في أكياس دون أن تُعرف أجزاؤها إن كانت لهذا الشهيد أو ذاك، وتتكدس الجثث وقد اختلطت الدماء والأجزاء وكأنها تريد أن تؤشر لما ألمّ بهم من قدر بلا موعد، لتنقلهم حافلات الى المقابر والمدافن على عجلٍ دون مراسيم أو احتفاءٍ او بياناتٍ نعي من الاحزاب والزعماء الذين كان هؤلاء الموتى أولياء نعمهم، وإرادتهم التي اغتصبت منهم بالخديعة في الانتخابات المزورة ، هي التي جاءت بهم الى كراسيّ الحكم وتيجان السلطة.
كانت لتشييع الموتى في ذاك الزمن قدسيته، يقف عند مرور مواكبهم الناس، فيتوقف المرور وتبطئ السيارات من سرعتها، ويبدو الحزن على وجوه المارّة وهم يترحمون. لم يكن الموت مجانيّاً، ولم تفقد طقوسه سرّ الأبدية، أو يتحول الموت نفسه الى عبثٍ صادمٍ ينتزع أرواح الناس في غير أوانه وكأنه مدفوعٌ بأسباب الصدفة لا القدر المحتوم ..
ها هي مواكبهم تتراكض مسرعة خوفاً من مصادفة رتل مسؤولٍ يزاحمهم في الطريق ويخدش شرف تضحيتهم بحياتهم ليظل في رتلٍ آمن، فربما هو في الطريق لعقد صفقة فساد عابراً لايتحمل التأجيل..
مواكب فقرائنا تسرع الخطى والموتى يتنازعهم القلق من احتمال تعرضهم للإهانة والاستباحة من أرتال المسؤولين وحماياتهم..
وأكاد أسمع صوت فجيعتهم يحذرنا بقلقٍ مشوبٍ بالندم :
احذروا الفتنة ،... حذارِ من الدعوة للثأر والقتل على الهوية ...
حذارِ … فعلى كل عراقي أن يشهد أنّ قتلتنا هم نفس قتلة آهالينا في الأنبار والفلوجة وديالى والموصل وسنجار، قتلتنا هم داعش ومن مكّن داعش من نشر الخراب في ديارنا ..
هذا بياننا نحن القتلى بجريرة حكّامنا: احذروا الفتنة ...