عادت مسألة البيئة وتأثيراتها على الحياة والعلاقات الانسانية والدولية مرة اخرى الى الصدارة. فحسب العالم البيئي فرانشيسكو فيميا، احد مؤسسي مركز المناخ والأمن في واشنطن، بدأ الباحثون في الآونة الأخيرة بالاهتمام أكثر فأكثر بالآثار التي تتركها ظاهرة الاحتباس الحراري على العلاقات الدولية، وعلى النزاعات بين الدول المختلفة، أو ضمن الدول نفسها. وتقول إحدى الدراسات الحديثة إن التحولات في مناخ الأرض ارتبطت تاريخيًا بالصراعات العنيفة، وإن الاحتباس الحراري العالمي قد يفاقم النزاعات في أنحاء العالم من جراء انحسار الاراضي الزراعية وانتقال سكان الارياف للمدن وما ينتج عنه من تغيرات ديموغرافية. ونحن اذ اتفقنا مع هذا العالم البيئي ام لا، الا أن كل المؤشرات تشير الى ان تدني المستويات البيئية في العالم لن تخدم البشرية وشعوب العالم على المدى البعيد.
وبالإضافة الي الاحتباس الحراري الذي تسببه بالدرجة الاولى الاستغلال الغير مبرمج والجشع للطاقة العضوية، تشكل شحة المياه وظاهرة التصحر وتقلص المساحات الخضراء جزأ كبيرا من المشاكل البيئية التي تعاني منها البلدان المختلفة. وقد تقود الى صراعات بين الدول المجاورة للحفاظ على هذه الثروات كما نرى ما يحدث في حوض النيل بين مصر واثيوبيا والسودان وفي منابع دجلة والفرات بين تركيا وايران وسوريا والعراق.
اما بالنسبة للعراق، فإن مسألة تدويل مشكلة العراق المائية والطلب من المجتمع الدولي الضغط على دول الجوار للتوقيع على اتفاقية "المجاري المائية للأغراض غير الملاحية لعام 1997"، لكي تصبح إطاراً قانونيا دوليا، يلزم دول المنطقة تحديد الحصة المائية لكل بلد، قد اصبحت ضرورة لا يمكن السكوت عنها. فالكثير من دول العالم لا علم لديها بالصعوبات المائية التي تواجه العراق باعتباره بلد النهرين العظيمين.
ان الاستمرار في شرح معاناة العراق من شحة المياه، والتصحر والتغير المناخي بسبب إنشاء السدود التركية والسورية، وتغير مجاري الأنهار من قبل إيران وتركيا وسوريا والتجاوزات الكويتية على مياهنا الاقليمية، أدت الى انخفاض حصة العراق المائية الى اقل من النصف مما كانت عليه في السابق. هذه التجاوزات الاقليمية لها تأثير مدمر على العراق والامن الغذائي العراقي ومياه الشرب والصناعة والزراعة وباقي مرافق الحياة. وعلى العراق المشاركة الجادة وبمستويات رفيعة في المؤتمرات الدولية التي تناقش مسألة البيئة والمياه، كما على العراق اقامة مؤتمرات اقليمية ودولية في العراق لتسليط الاضواء على هذه الازمة.
ان الضغوط على دول الجوار لإعطاء العراق حقوقه المائية ممكن ان تكون حلولا انية لتخفيف شحة المياه، ولكن الحلول الطويلة الامد لن تكون كاملة بدون بناء مخازن وسدود على الانهار العراقية للحفاظ على المياه التي تصب في شط العرب وتحويلها الى المناطق الزراعية وتوسيع الرقعة الخضراء. بالإضافة الى ايجاد حلول اَنية ومستقبلية لمشكلة زيادة الملوحة في شط العرب والمسطحات والمخازن المائية الاخرى مثل منخفض الثرثار والحبانية والاستفادة منها في المجالات الاقتصادية والزراعية وليس فقط للاستيعاب والتصريف. وكذلك الاستفادة من المياه الجوفية وتحلية المياه بشكل مبرمج يحافظ على الموازنة البيئية.
ومن الناحية الامنية فأن أي خلل او كسر يمكن ان يصيب السدود العملاقة التي تبني على دجلة والفرات في دول الجوار، بفعل طبيعي او عسكري مقصود او غير مقصود، ممكن ان يدمر مساحات شاسعة ومدن اَهلة في العراق. فهل سنبقى تحت رحمة اهواء حكام دول الجوار؟ ان الاعتماد على نظام متكامل من السدود والخزانات ممكن ان يحفظ العراق من هذه الكوارث ويسعد شعبنا بتوفير الطاقة الكهرومائية والاراضي الصالحة للزراعة والبيئة الصحية لنعود مرة اخرى وبحق الى (بلاد الميسوبوتوميا) البلاد الخصبة الامنة ما بين النهرين.
اثار انتباهي هذه الايام خبران نشرا في المواقع الالكترونية، الاول من منظمة طبيعة العراق حول ابحار اسطول بحري مكون من قوارب صغيرة مصنوعة بالطرق البدائية القديمة من منابع نهر دجلة في تركيا الى مصبه في شط العرب العراقي وذلك لتسليط الاضواء على معاناة واهمال والتجاوزات على هذا النهر التاريخي الخالد الذي قال عنه الجواهري الكبير:
حيّيتُ سفحَكِ عن بُعــــدٍ فحيـِّيني يا دجلةَ الخيرِ يا امَّ البســــــاتينِ
والخبر الثاني يقول أعلنت وزارة الزراعة، عن استحداث محمية طبيعية بمساحة 3000 دونم لحماية الطيور والحيوانات النادرة، غربي محافظة النجف.
وفي الاشهر القليلة الماضية طالبت وزارة البيئة العراقية محافظة بابل بان يكون "هور السلطان" محمية طبيعية. وكان العراق قد اعد خططًا لبناء أول محمية وطنية أو حديقة طبيعية، في بقعة يُعتقد أنها كانت جنة عدن التاريخية. والمعروف أن الرقعة الواسعة من الأهوار في جنوب العراق هي موطن انواع عديدة من الحيوانات، مثل جاموس الماء وغريد القصب البصري وثرثار العراق، وهذان الأخيران نوعان من الطيور النادرة المهددة بالانقراض. وتضم مناطق الاهوار المئات من النباتات والطيور والاسماك المهددة جميعا بالاختفاء، فحبذا لو جرى الاهتمام بهذه المشاريع وليس على الورق فقط بل بفعل على الارض مدعوم بخبرات عراقية ودولية لنحول هذه الارض بالفعل الى جنة.
إن هذا الاهتمام بالبيئة والطبيعة العراقية، وعلى محدوديته، الا انه خطوة جيدة في الاتجاه الصحيح. وإن تخصيص مبالغ من ميزانية الدولة العراقية النفطية الهائلة لتحقيق مشاريع تحسين البيئة العراقية والمائية وادامتها هو مطلب انساني وشعبي عراقي عاجل، ان الاوان ان يدرج في أوليات حكومتنا وبرلماننا المصون.
*اكاديمي وناشط مدني عراقي
Nabil_roumayah_(at)_yahoo.com