منذُ بروز داعش وأسْرِهِ إرادة سكّان مدنٍ عراقيّة أثيرة لدى كلّ مواطنٍ لا تستعبده الهويّات الفرعية، الدينية والمذهبية والطائفية، أُعيد فرز العراقيين واصطفافهم في كتلتين لا ثالث لهما: المنتمون إلى العراق الوطني، والمنحدرون في قطيع الإرهاب الداعشي التكفيري الذي لا وطن له ولا مذهب ولا انتماءً إنسانياً، فليس للقطيع من هوية تميّزه غير وشم العار.
وتراجعت بعد هذا الاصطفاف والفرز، أو كان ينبغي لها أن تتراجع كلياً، وتُطوى صفحات استباحاتها، كل مظاهر الاستنفار والتخندق الذي قسَّم العراقيين على أساس انتمائهم الطائفي وولاءاتهم المناطقية والعشائرية، وغيرها من البدع " المستوردة " من مكبّات العوالم السفلية، الموغِلة في جاهليتها وظلاميّتها وانحطاطها.
وفي الاصطفاف الوطني، ما بعد غزوة داعش، انبعث فرحٌ عراقيٌّ تضمّخَ بألوان الطيف الوطني، مشفوعاً بصلواتٍ تشابكت فيها أيدي السنّة والشيعة وكلّ العراقيين إلى فوق، إلى السماء، لا متدلية إلى أسفل ولا متشابكة إلى حيث القلب، لترمز ألى أنَّ النصر رايتها معاً، وفي تكريسه فرصتها التاريخية، لاستعادة ما انقطع بينها من حبل المودّة والتآخي، وما تفكّك من نسيجِ الوحدة والتلاحم الوطنيّ.
ولكنّ الفرص التاريخية في حياة الشعوب والأُمم لن تكرّسها الأحقاد والضغائن، ولن تظلّ توقظ في أفئدة الناس ووجدانهم شعلة الأمل، إذا لم تجد لها حواضنَ، تستمدّ الحكمة من العقل، والإرادة من رصيد التجربة التاريخية "الحاضرة" في الوعي الشعبي الذي اكتوى بنيران الفتنة الطائفية، وتعمّد بأحقاد وفساد أُمراء الطوائف ومصالحهم الملوّثة بدم العراقيين وقتلاهم على وجهي الحقد الطائفي والمذهبي الوافد الغريب المتلبس زوراً بالانتماء الوطني.
سيُكفّر من يُحمِّل السنّة مصائب داعش والإرهاب، فهم الأكثر تضرراً من استباحاته، وحواضرهم هي الأشدُّ دماراً وتفكُّكاً وانهياراً.
وإذا كان ثَمّت مسؤول يؤخذ بجريرة أهلنا السنّة، فهم الوجه الآخر من الطبقة السياسية الحاكمة المعروضة في سوق تبادل المغانم والمصالح والمواقع المتفسّخة. وسيكفر مرّتين مَن يُحمِّل الشيعة جريرة مَن اغتصبوا إرادتهم، وتداولوا في سوق النخاسة السياسية هويّتهم لتحقيق مصالح صبّت السحتَ الحرام في خزائنهم، وأظهرتهم كذباً كحماة مدافعين عن حقوق الطائفة البريئة من جرائمهم وتعدّياتهم وسياساتهم المعزولة عن الإرادة الوطنية.
رايات العراق المرتفعة فوق صواري الفلّوجة، وهزائم داعش، ما هي سوى بداية تحتاج إلى أن تتعمّدَ بانتصارات على جبهات نينوى ومدينة الموصل، وتمتدّ في كلّ اتجاه لتطهير العراق من حواضن داعش، واجتثاث جذوره، وتجفيف مصادر مدّ خلاياه النائمة بأسباب الحياة والانبعاث. ولن يتحقق ذلك دون تكريس الاصطفاف الثنائي، بين العراقيين بهويتهم الوطنية الواحدة في جبهة المواجهة مع عدوّهم داعش وكلّ مسمىً إرهابيّ يُعاد إنتاجه ومدّه بأسباب التحرّك والتمدّد في أيّ جزءٍ من أركان الوطن. وينبغي لكي نجعل من هذا النزوع هدفاً قابلاً للحياة والتطوّر والتسيّد في المشهد السياسي، أن نرتقي إلى مستوى التحدي الذي سيواجهنا من تُجّار الفتنة الطائفية، وهم متمترسون في مواقعهم السياسية التي تغتصب إرادة الطائفتين من دون دراية منهما، وعبر تخديرهما بالشعارات المخادعة، المراوغة، المنافقة، المشحونة بالأحقاد والضغائن.
وإذا كانت نشوة الانتصار حقّاً لا يمكن تجريد العراقيين منها، بعد سنوات الهزائم تحت شعارات أُمراء الفتنة الطائفية والطبقة السياسية المتنفّذة، فإنّ اليقظة وشحذ الوعي وفضح كلّ محاولة لحرف الانتصار وتوظيف النشوة في غير مراميها، هي وحدها الكفيلة بتحويل النشوة في معركة على طريق الحسم إلى منصّة رقابة على محاولات إمرار صيغٍ جديدةٍ للفتنة.
إنَّ مغتصبي الإرادة الوطنية لن يتوقفوا عن محاولة مصادرة الانتصار على داعش في الفلّوجة، وإظهاره كتأكيدٍ على صواب نهجهم الطائفي وسياساتهم الانقسامية، وهم لن يتورّعوا هذه المرّة أيضاً عن توظيف نشوة الانتصار الشعبي لإجهاض عملية الإصلاح والتغيير، وطمس معالم النهوض الجماهيري وحراكه الاحتجاجي، وتجاوز أزمة النظام السياسي الطائفي، بإعادة تكييفه وإضفاء طابعٍ تمويهيٍّ مخادعٍ على مظاهره وتجلّياته الرثّة..