يخشى الناس أن تستدرجهم الانتصارات العسكرية في الفلوجة وغيرها على داعش إلى كمائن الخدر ونسيان مطالبتهم بالإصلاح غير القابل للتسويف والتبرير. والانتصار العسكري يتطلب لكي يتكرّس في الواقع، لا أن يحيا في الوجدان، إصلاحاً حقيقياً جذرياً متزامناً مع العمليات العسكرية، خطوة بخطوة، على أن يتكاملا معاً، يُعزِّز أحدهما الآخر، لخلق بيئة سياسية اجتماعية تكون حاضنة لوضع جديد، تتراجع فيه مظاهر الفتنة الطائفية كأساس، وتُشلّ القوى المحركة لها.
إنّ الركون على النصر العسكري وحده، محض وهمٍ فنّدته تجربة سنوات الهزائم الماضية، حيث تعالت لغة القوة، ووليّ الدم، والقائد الضرورة، والانتقام بأدوات التصفية على الهوية الطائفية، والإقصاء والتهميش، والاستعلاء على عواقب الأزمات المتفاقمة وتدويرها، ومحاولات التجاوز على أسس وقواعد ومتطلبات العيش المشترك للعراقيين من دون استثناء.
ويتوهم من يعتقد بأن القوى الشعبية الناهضة سهلة التطويع، يمكن أن تمر عليها المناورات الهادفة لتعطيل عملية الإصلاح أو الالتفاف عليها بمختلف الحجج الواهية، بما في ذلك ضرورة حشد القوى والإمكانات لدحر الإرهاب. فالإرهاب لن يندحر، من دون إصلاحٍ سياسي عميق الجذور يجتثّ الأسباب التي كانت وراء مدّ الإرهاب بعوامل الحياة وتمدد داعش واستيلائه على حواضرنا، وتفكيك مجتمعنا، وإشاعة ثقافة الكراهية والضغينة ورفض الآخر والسعي لعزله وإقصائه.
وبعض أوجه التخدير انعكست في نزوعٍ عبثي نجح في إفراغ عملية الإصلاح من مقوماتها، وأجهضها مؤقتاً عبر شلّ السلطة التشريعية وتعطيل إرادتها. لكنّ نتائجها الجانبية لا تزال تفعل فعلها في الحياة السياسية وفي النشاط الحكومي. ويبدو ان بين تلك الجوانب السلبية، تناسي الاولويات في سلّم التدابير الإصلاحية التي جرى التأكيد عليها في الحراك الجماهيري والتظاهرات العاصفة التي شملت مختلف المحافظات والمدن العراقية المهمومة. وإذا تجاوزنا بدعة "حكومة التكنوقراط" التي ابتكرها الدكتور حيدر العبادي، فإن طائفة من التوجهات والاستحقاقات التي التزم بها منذ توليه السلطة، كان ممكناً تحويلها الى قراراتٍ من دون حاجة لعرضها على البرلمان، بل إنّ التفويض البرلماني والشعبي مكّنه منها، مع ما تتطلبه من غطاءٍ قانوني. ولو عاد رئيس مجلس الوزراء الى ما ضمّنه من توجهاتٍ في أول حوار شاملٍ له، لوجد فيه ما يمكن اعتباره قاعدة متينة لتدابير إصلاحية تشكل مدخلاً لتغييرٍ جذري في المنظومة السياسية الفاسدة، والهيكل المتداعي لِبنيان اللادولة المنزوعة الإرادة والحول.
أمّا وقد نسي ذاك الحوار، وتناسى ما جاء فيه من توجهاتٍ سليمةٍ أولية للإصلاح، فإن من غير الملائم له أن يتصرف خلافاً لتلك الالتزامات الإصلاحية وينقلب عليها، بدءاً من مواصلة نهجٍ لسلفه ظل مدار خلافٍ وجدلٍ انتهى بالإطاحة بصاحبه. وبين ابرز الممارسات غير الدستورية لحكومة سلفه، التعيينات بالوكالة في ابرز المواقع القيادية في مؤسسات الدولة والاجهزة العسكرية والامنية، وتغييب السلطتين التشريعية والقضائية والانفراد في اتخاذ القرارات السيادية. كما تميز حكم السلف غير الصالح بالالتفاف على استحقاقاتٍ لا مناص من تحقيقها، ليس نزولاً عند طرفٍ سياسيٍّ أو فئة ضاغطة، أو مكوّنٍ يستمتع بليّ ذراع القائد المنصور بالله، وإنما لضرورة تمكين الدولة والسلطة السياسية بتجاوز ما يواجههما من أزماتٍ وعوارٍ وخللٍ تعيق التطور والتقدم والنهوض.
وكان متوقعاً أن يستفيد السيد العبادى في تحصين نفسه بتجنب تكرار أخطاء وخطايا جانبت العقل والحكمة في إدارة شؤون البلاد وكانت وراء الاتيان به الى كرسي رئاسة الوزراء، وتحت شعار العودة الى العقل والحكمة، واعتماد الإصلاح والتغيير لترميم الخراب وإعادة استكمال بناء دولة أطاحت بها رياح الانحراف بالعملية السياسية التي كان يُفترض بها أن تُرسي أسس دولة مدنية ديمقراطية.
ومن الغريب أن لا يجانب السيد العبادي، صاحب بدعة " التكنوقراط " المنقذ، سبيل الإصلاح وحُزمه المتدفقة خارج السياقات المطلوبة فحسب، بل يعمد الى محاولاتٍ ترقيعية جديدة، ليس من شأنها سوى المناقلة بين أدوات الفساد ومظاهرها من وزارة الى أُخرى، بدلاً من تطهير الدولة ووزاراتها من مراكز عليا، مُكلّفة، أثبتت فشلها وفسادها، و"المناقلة " وجه دامغ على ذلك، إنها بلا جدوى أو فائدة، إن لم تكن عاملاً من عوامل استشراء الفساد واستعصاء طمر مكبّاتها.!
كان على العبادي، ما دام قد تجرّأ على الانفراد باتخاذ قراراته بادّعاء امتلاكه تفويضاً برلمانياً لم تنته صلاحيته، أن يلغي منصب المفتش العام من حياة دولة لا تحتاج بسبب خرائبها إلى تفتيشٍ عامٍّ أو خاص!