لا أحد يقع ضحية الالتباس في أنّ العراق بألف خير، وهو يسمع ويشاهد ويقرأ تصريحات المسؤولين العراقيين. فإذا استثنينا رئيس الجمهورية الذي لا شأن له بما يدور في البلاد، خارج المهام البروتوكولية، فإنّ قادة البلاد ابتداءً برئيس مجلس الوزراء ومروراً بالوزراء والوكلاء والمرؤوسين بدرجاتهم الخاصة "الثمينة" يضخّون في ما يدلون به من تصريحاتٍ وبيانات وأقوال، مقادير من التفاؤل والثقة الجازمة والوعود، مما يُنسي العراقيّ ما هو فيه من حالٍ تثير شفقة القبائل القاطنة في أدغال الأمازون!
ونادراً ما تلتقط ملاحظة سلبية من جهة حكومية تتناول بالنقد سياستها أو ما ترتكبه من أخطاء، أو ما تعانيه من أخطاء. والتراشق بالنقد والمثلبة هو من حصّة قادة الأحزاب والكتل والشخصيات المُبرّزة في الدولة المغلوب على أمرها. وفي حُمّى الصراع السياسي الدائر، ودخول "عملية الإصلاح والتغيير" على خط الصراع والمزايدات اللفظية، أصبح رئيس مجلس الوزراء، بحكم موقعه ومسؤولياته طرفاً في إدارة الصراع وما يتطلبه من تدخّلٍ أو ما يستوجبه من تدبير. وهو يعمِد لإظهار مفاسد أو سلبيات أو ثغرات تُبرّر له ما يتخذ من إجراءاتٍ وتغييرات في مفاصل الوزارات وأركان الدولة، كما فعل قبل أيام في المناقلات بين المفتشين العامّين في الوزارات. وليس مهمّاً أن يكون ما يتقرر على هذا الصعيد وغيره صائباً ويصبّ في خانة الإصلاح أو يشلّ مركز قوة من مراكز الفساد، أو يطيح بركنٍ من أعمدة ضعضعة كيان الدولة ويعيث فيها ما شاء له من خراب.
لا سبيل للعراقيّ ليعرف حقيقة ما يجري في بلده وما يتهدده من أخطار تمسّ كلّ جوانب حياته التي باتت أرخص من ثمن أداة الإجهاز عليه، فكلّ شيء، وفقاً لما يجري تداوله على ألسنة قادة البلاد ومسؤوليه الأمنيين والعسكريين والاقتصاديين "تمام التمام" لا غبار عليه، ولا خشية من أي احتمالٍ لتعرّضها الى تصدّعاتٍ أو انتكاساتٍ أو انهيار. وليس غريباً أن يتلقى المواطن تطميناتٍ على لسان مسؤول أمني بأنّ عمليات الإرهاب قد تراجعت "في الآونة الأخيرة" بحساب عددها وخسائرها في الأرواح والممتلكات، وقدرة الخلايا النائمة على التنقل بحريّة والتسلّل الى المواقع الستراتيحية في العاصمة. والمواطن إذ يستمع الى مثل هذه التطمينات، يتلفّت حوله وهو لم يصحُ بعد من هول تفجيرٍ كاد أن يأتي على حياته، ليتثبت من أنّ موقع التفجير يقع في قلب العاصمة، وعلى مبعدة خطوات من عدة سيطرات أمنية تفصل بينها أحياناً أمتار لا غير، فيُوقن أنه واهمٌ مُفترٍ، والمسؤول الأمني محقٌ وما يقوله عين الصواب والصدق!
عشرات الرسائل والاتصالات جاءتني تعقيباً على مقالة الأمس حول تنقلات السيد العبادي للمفتّشين العامّين بين الوزارات، بهدف التضييق- كما يبدو- من الأدوار غير المحمودة لبعض المفتّشين في وزاراتهم. والسيد العبادي رأى في نقلهم الى غير وزاراتهم قد يردعهم أو يُقلِّل من تأثيراتهم السلبية ، أو يعيد " تثقيفهم " بما يحيد بهم عن سبيل الفساد الإداري أو المالي. ولا شك أن هذا الاجراء السيادي، يؤكد أن المسؤول التنفيذي الأول في الدولة يُدرك كم التفسّخ الذي ينخر في مفاصل الحكومة والدولة، وإذ لا يستطيع معالجته جذرياً، فلا بأس من إلهاء العناصر المشتبه بفسادها من خلال التنقّل، لإضاعة الفرصة عليها من العبث لأطول فترة ممكنة.! والإجراء ينطوي على حكمة قديمة، فما لا تستطيع معالجته بالدواء، إليك به بالكيّ، أو الإهمال ليتقرَّح وينفجر على صاحبه. وليس للزمن من أهميّة، كما هي عليه حياة المواطنين وممتلكاتهم ومستقبلهم، في مثل هذه الحلول التي رافقت العراق الجديد منذ تولّي طغمة الإسلام السياسي حكم البلاد.
ومِن هذا المال، كما يقول المثل الدارج، حمّل جمال. من ذلك ما جاء في حوار ضافٍ أجرته "المدى" أمس مع محافظ البنك المركزيّ السيد علي العلّاق، حول الوضع المالي في البلاد واحتياطيّ العملة الأجنبية، وأوضاع المصارف الخاصة ، ودور المصارف الأجنبية وغيرها من القضايا العقدية التي تُشكّل عصب الحياة في العراق المُهدَّد اقتصاديّاً.
الحوار رصينٌ متوازنٌ يعكس دراية بأحوال المال والاقتصاد والمصارف، ليس فيه أيُّ ثغرةٍ تعكس قلقاً من الاحتمالات، سواءً تعلقت بانهيار أسعار النفط والتغيّرات المفاجئة التي يتعرض لها، أم بفساد نافذة الدولار في البنك المركزيّ، أو بتلاعبات المصارف الخاصّة.
والغريب أنّ الحوار المهم لم يتوقف جدّياً عند ظاهرتين خطيرتين تتعلقان بالمسؤولية المباشرة لإدارة المركزيّ، الظاهرة الأولى خاصة بضمور الاحتياطي من العملة في البنك، وقد رحّلها السيد المحافظ الى خانة مجلس النواب والحكومة وهما الجهتان المعنيّتان بإقرار الميزانية الحكومية، والعجز فيها " يُغطّى" من احتياطي المركزي أُوتوماتيكياً .! وهذا الترحيل الى الغير محاولة لتبرئة البنك من مسؤولية الحفاظ على الاحتياطي ورفض التلاعب بموجوداته. ولابد ان يكون لإدارة البنك دورٌ في إقرار الميزانية والتدخل فيها إذا كانت المشاريع المقدمة الى النواب تنطوي على عجزٍ يجري تحميل البنك المركزي مسؤولية عنه بالسحب من الاحتياطي. أمّا الظاهرة الأخرى فهي تتعلق بمسؤولية البنك المركزي عن سياسات المصارف الخاصة والرقابة على ودائعها وأوجه استثماراتها، وضوابط قروضها، وسويّة مجالس إدارتها. والسيد المحافظ لم يأتِ بجديد حول العبث الذي تعرّضت له ودائع المواطنين في المصارف الأهليّة مع أنّ البنك المركزيّ بحكم القانون معنيٌّ بحماية الودائع وضمان حقوق المواطنين. وتبقى بعد ذلك الرقابة الجديّة من المركزيّ على المصارف الأجنبية وشروط نشاطها وأوجُهها ومدى مساهمتها في إنعاش الدورة الاقتصادية، وتفعيل القطّاع الخاص ودعم استثماراته ومشاريعه. ومن المهم في هذا المجال التساؤل عن مدى صواب تمكين هذه المصارف من النشاط في العراق، بإلزامها اعتماد رأسمالٍ تشغيليٍ قدْرُه سبعة ملايين دولار فقط !
في الحوار بدا محافظ البنك المركزيّ، مثل كلّ قادة مفاصل الدولة، مُفعماً بالتفاؤل "الهشّ"، فكلامه لا يوحي بأدنى قدرٍ من الحذر واليقظة من احتمالات كامنة، ولا يبعث برسالة اطمئنان للعراقيين بأنَّ حامي أموال البلاد والرقيب الأمين عليها في وضعٍ آمن لا يتطلّب رقابة، ولا يستلزم مساءلةً في أيِّ جانبٍ من جوانب نشاطاته الماليّة.