وسطَ مشاهدِ الموت اليوميّ، المصحوبة بالتأسّي على ضياع الأمل المرتجى بوطنٍ مُعافى، تضيعُ مواقفُ بطوليةٌ إنسانيةُ الملامح والأعماق. وهي عادة طغت على طقوس زمننا الجميل، مذ استولى على أحلامنا حواسم الإسلام السياسيّ، ولصوص مقابر الأحياء، والمنتشون بلحاهم المجرّدة من التقوى، وأوشمتهم المرسومة بحبرِ العار!
صار نسيانُ كلِّ مآثرنا الإنسانية عادةً تُصاحب فجيعتنا، وتنتزع من ذاكرتنا المضيئة مرافئ التماهي مع براعم الأمل والرجاء والاستدعاء المشفوع بالاستعداد للعمل والتضحية دفاعاً عن المساحة التي ما تزال تؤشّر لزمن المآثر البطوليّة، واستشراف عالم الغد الخالي من فضلات عار النظام الطائفي وأوبئته وسماته، وما يتدثّر به من أسمال التأسلم السياسيّ.
في خِضمِّ صراعِ ضواري لصوص المال العام، والميليشيات المنفلتة، تحت عباءة الدين الزائف والطائفة المُغتَصَبة، تنبعث من رماد المشهد اليوميّ نماذجُ عراقيّةٌ أصيلةٌ تُعيد إلى الذاكرة زمن العراق الذي لا يريدون له أنْ ينبعث من جديد. وفي حياتنا اليوميّة المكتظّة بمشاهد الأسى والتشظّي والنُّكران، الألوف من العراقيات والعراقيين المُعَبِّرين عن أصالة مَعدنِنا، ونقاوة سويّتنا، وجسارة إقدامنا، حين نجدُ أنفسَنا أمام خيار التحدّي لإثبات تمسُّكنا بالحياة، بما تعنيه من قيمٍ وثوابتَ وتجلّياتٍ إنسانيةٍ رفيعةٍ وسامية.
والوطنية العراقيّة بما كانت تُمثِّله في ذاكرتنا التي تستعصي على الإنكار، ما هي سوى كلِّ ما تتمثَّل في تلك القيم والثوابت والتجلّيات.
ونحنُ اليوم نعيش لحظةً مشرقةً من لحظات الانبعاث الوطني، لحظة صعود الدعوة لتكريس الإنجاز الوطنيّ المتمثِّل بتحرير الفلّوجة من براثن التكفير الداعشيّ، وتوظيفه لاستعادة القيم والثوابت الوطنيّة التي طمستها الممارسات الطائفيّة المشينة، الغريبة، الوافدة من كهوف التاريخ الظلاميّ.
والانتصار العسكري بحدِّ ذاته، بعد حالة يأس رافقتنا من إمكانية استنهاض قوى الجيش والقوّات المسلّحة والأجهزة الأمنيّة التي شتَّتتْ طاقتها وبعثرت قدراتِها سياسةُ الفصل الطائفيّ والممارسات الإقصائيّة التي رافقتها طوال السنوات الماضية، لكنّها في الحدّ الفاصل بين تكريس الهزيمة مع "الهروب من الموصل" وترك أهلها صيداً ثميناً لتنهش فيه مخالبُ أوباش داعش، ورفض الاستسلام تحت ضغط "الأمر الواقع" لاستيطان داعش في الفلّوجة وبقاء المدينة رهينةً ومركزَ وثوبٍ وفضاءً مفتوحاً للتمدّد، استعاد الجنود وضبّاط الصفّ والضبّاط الوطنيّون المبادرة، ونفضوا عن ذاكرتهم ما عَلِقَ بها من أدران سياسات وممارسات الطبقة السياسيّة المُغتصِبة لإرادتهم الوطنيّة، وحرّروا مدينتهم التي يُمكن لها أن تُصبح رمزاً وأمثولةً مغايرةً لما تريد الطائفية أنْ تلحقه بها من توصيفٍ غريبٍ على الذاكرة العراقيّة الوطنيّة، وأنْ يُصبح تحريرها فرصةً جديدةً لا تُعوَّض لمعافاة الحياة السياسيّة، وتنظيفها من القيم البالية، وتحويلها إلى أداة بناءٍ وتطوّرٍ واستقرارٍ ونهوضٍ، وتحقيقٍ لمصالحةٍ وطنيّةٍ شاملة.
من الممكن، من دون شكوك وهواجس، أنْ تُصبح الفلّوجةُ المحرَّرةُ، منصّةَ مرحلةٍ جديدةٍ من الوفاق الوطني، خارج سياقات ومضامير النهج الطائفيّ، وهي إمكانيّة تتطلّبُ الشروع بلا مقدّماتٍ بلاغيّة، من قبيل "معاجين المحبّة" وتُرّهات دُعاتها، الإقدام على إصلاحٍ جذريٍّ للنظام السياسيّ، صارت خطوطه وتفاصيله معروفةً لا يطولها الغموض والعسر، إذا كان السيد العبادي وفريقه على استعدادٍ للمضيِّ في تطبيق ما ضيَّع في الدعوة إليه سنةً ونصف السنة من عهده الحكوميّ، ومن عمر العراقيين الذين صدّقوا ما دعا إليه من إصلاحٍ وتغييرٍ لم يتمخّض سوى عن خيباتٍ جديدة.
أمام العبادي أنْ يُكرِّس جهده في عملية الإصلاح ويُخفّف من زياراته الميدانيّة إلى خطوط التماس العسكريّة، فالحسمُ الحقيقيُّ يبدأ من توطين الانتصار العسكريّ بإنجازاتٍ سياسيّةٍ، يُعيد للمواطنة قيمتها كقاعدة للمعافاة وإعادة البناء، ويستنفر طاقات العراقيين، ويستثير ما في ذاكرتهم من شجاعةٍ وجسارةٍ واستعدادٍ، لفرض إرادة العيش المشترك والتوافق والقبول بالتنوّع والاختلاف في إطار الوحدة الوطنيّة الخلّاقة.
والخطوة الأُولى لبلوغ مستوىً مِنَ القبول واستعادة الثقة وتوطين الانتصار العسكريّ بالإنجاز الوطنيّ السياسيّ، تتمثّل في تصفية كلّ أدوات الانتقام، ومصادرة الانتصار "بادّعاءاتٍ طائفيّةٍ " معزولةٍ عن الواقع، وتأمين الإجراءات الضامنة لخلق بيئة تُشجِّع على المضيّ في رفض كلّ دعوةٍ للاحتماء بالأُطر الإرهابيّة، وحواضنها، وأدواتها المشبوهة من تجاوزاتٍ ونهجٍ كان من بين العوامل الأساسيّة لِمَدِّ داعش بأسباب الاستقواء والتمدّد، وهي نفسها يمكن أنْ تكون سبباً أقوى لانبعاث بدائل استجارة أكثر خطورةً وتحدّياً تحت عباءة الشعور بالاستهداف والتهميش.
في هذه اللحظة الفارقة بين سطوة داعش التكفيريّ، وانبعاث الإرادة الوطنيّة في ما تحقّق من انتصارٍ عسكريٍّ في الفلوجة ينتظر توطيناً سياسيّاً، تستضيء الذاكرة العراقيّة بمشاعلَ تُجسِّد ما يحاول شُذّاذ الآفاق من دعاة الحرام الطائفيّ، محوَها وإطفاء جذوتها وإبقاءها في قاع النسيان: عثمان العبيديّ، بطل جسر الأئمة من أبناء مدينة الأعظمية، وأميّة ناجي جبارة بطلة التصدّي لقطعان داعش في ناحية العلم، وطوعة الجبوري ( أُم قصي) المرأة الجسور التي أنقذت العشرات من مُجنّدي سبايكر من الموت المُحقَّق بإخفائهم عن أعينِ عناصر داعش في العلم أيضاً، ومصطفى العذاري، شهيد مدينة الصدر المعدوم عند أحد جسور الفلّوجة. إنّهم نخلاتُ العراق الباسقات، وعنفوان دجلة والفرات، وعمق التاريخ العراقيّ.
قد يكون من بين معاني تحويل انتصار الفلّوجة إلى رافعة لاستعادة الموصل، وضع العبيدي وأُمية وطوعة والعذاري معاً في جداريّةٍ تنبثق منها دعوة العودة إلى ما تعنية ذاكرتنا، على مسافةٍ كافيةٍ للرؤية بين الأعظميّة والكاظميّة وفي ناحية العَلَم وعند أحد مداخل الفلّوجة.