غيّب الموت الغادر، أمس عشيّة العيد، عشرات الأبرياء، فضلاً عن الجرحى الذين ما زال البعض منهم ينتظر الالتحاق بقافلة الشهداء. وكان مُمكناً بتدابيرَ أمنيّة صحيحة التقليل من احتمال وقوع الفاجعة في الكرّادة، قلب بغداد، المنطقة التي ظلت عصيّة على تمزيق نسيجها الاجتماعي، كريمة في احتضان ضحايا "الفصل الطائفي"، فأحياء الكرادة لم تترك فرصة لدعاة الكراهية والضغائن الطائفية، كيما تتحول إلى كانتوناتٍ تفصل بينها التحصينات الكونكريتية، تضم على طرفيها سنّة من جانب وشيعة من جانبٍ آخر، وتتدثر بينهما الأقوام والأديان العراقية المتآلفة.
ومحرقة الكرادة، حيث تفحّم العشرات من أخيار العراق المسالمين في سعير نيران القتلة، المارقين، الكفرة من الدواعش، تُذكّر بصيحات العراقيين الذين يطالبون بإعادة تصحيح مسارات السياسة والممارسات التي تؤسس لما يتعرض له المواطن المعزول من نكباتٍ وفجائع. وهي تذكّر أيضاً بتخبّط القيادات السياسية والأمنية التي لا تجد رابطاً ستراتيجيّاً بين خطوط الهجوم العسكرية على قطعان داعش في ساحاتها، ومتاريس الدفاع " السياسية" قبل الأمنية والعسكرية "الرخوة" وما تستلزمه من تدابيرَ وإجراءاتٍ تتحصّن باليقظة والحذر .
ويظلّ الانفصام بين الدعوة المخلصة لإشاعة بيئة التضامن الاجتماعي بين كل الوطنيين العراقيين من جهة والإرهاب الذي تمّ فرزه في عصابات داعش من جهة أخرى، وهو انفصامٌ يتسبب بقوافل من الشهداء كل يوم وينتهي بزيارة تفقدية للمسؤولين، وكأنّ ذلك البلسم والعلاج، وليس التوجّه الجدّي لتحصين العراقيين في جميع مدنهم وحواضرهم، على اختلاف هوياتهم ومذاهبهم بتدابير "المصالحة والتوافق الوطني".
شهداء الكرادة، صيحة أخرى، تُذكّر بأنّ العراقيين على اختلافهم في وادٍ، والحكام الممتنعين عن اعتماد العقل والحكمة والمصالح الوطنية العيا في وادٍ آخر..
وإلّا كيف للاستراتيجية العسكرية أن تكون ناجحة إن لم تكتمل بأبعادها الأمنية والاجتماعية والسياسية؟ كيف لها أن تكون ستراتيجية ناجحة إن افتقدت ركناً أساسياً من أركانها، وهو حماية عمقها السكاني ودرء الأخطار المُحدقة عنها، ومعالجة الثغرات القاتلة التي ينفذ من خلالها الإرهاب؟ وكيف يجوز أن يطلق عليها مفهوم ستراتيجيّة إن هي سمحت بممارسات تعكس ثقافة الكراهية، وتوغل فيها وتنوّعها وتعبّر عنها من خلال استمرار التظاهرات التي كانت حاملاً للفصل الطائفي، وتجلياً لأحقادٍ يبثها مجرد وجود ميليشياتٍ يلوّح قادتها ورموزها، في اللحظات الفارقة بين الانتصار والانتقام، بما يرجح كفة إلغاء الآخر وتهميشه والتعالي عليه؟
إنّ فاجعة الكرادة بضحاياها الأبرياء، والكرادة حاضنة أمينة للعراقيين بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والسياسية، هي جرس إنذارٍ ليس كسابقاته، يحذّر العبادي وفريقه الأمني والسياسي، بأنّ الانتصار العسكري وتعزيزه لا يتحققان من خلال استعراضٍ مهرجانيٍّ بين فترة وأخرى، يجري التأكيد فيه على القدرة على اجتثاث الإرهاب وتجفيف مصادر قوّته، بل عبر تعبئة القوى السياسية الوطنية والرأي العام في إطار نهجٍ جديدٍ ، مختلف ومتميز، يصفّي قبل كلّ شيء آثار ونتائج السياسات الكارثية التي أحلّت دم العراقيين على أساس العِرق والطائفة والقومية، وتبنّت نهج الاستعلاء والاستئثار والانفراد ونبذ الآخر، وأنهكت طاقة البلاد بكل جوانبها باعتماد القوة النابذة، المغامرة، الادّعائية، المجانِبة لمنطق العقل والحكمة والمصلحة الوطنية العليا.
وعلى العبادي، إن كان يريد إجراء انعطاف في مسار العراق النازف، صوب إصلاحٍ جذري، أن الشروع بتأطير عملية الإصلاح وتحويله الى برنامج عملٍ تلتفّ حوله بقناعة القوى الحيّة في المجتمع والحركة السياسية، يراعي بعض التوازنات التي لا تتناقض ،ولو مرحلياً، ولا تشكل إعاقة لنهجٍ ينتشل البلاد من القاع الذي انحدرت إليه.
وليس أفضل من لحظة الاحتفاء باستعادة الفلوجة، مناسبة لمبادرة تجمع كلمة الشعب، وتستنهض قواه استجابةً للعامل الأساس الماكن لمعافاة البلاد وتكريس المصالحة الشاملة في مجتمع مزّقت نسيجه الكراهية والحقد الطائفي والقوة النابذة، وكلها من فعل أطراف تراهن على إبقاء الوضع كما هو عليه، لتستنزف ما بقي فيه من قوّة نهوضٍ وتحدٍّ وتجديد.
إنها فرصة سانحة لم تُستنفدُ بعد، وعلى العبادي أن يتدارك المخاطر المحي