مِنْ كثرة استخداماته في غير موقعه الصحيح، فإن مصطلح "المؤامرة" وتسبيباتها على كلّ شأنٍ من شؤون البلاد في عالمنا الثالثي، بات مكروهاً، مذموماً، تجري الخشية من اعتماده في تحليل ظواهر عديدة، قد تكون المؤامرة تنطبق عليها بدقّة. ولولا هذه الخشية ومضاعفاتها السياسيّة، لاستنتجت أنَّ العراق عاش طوال أشهر في أجواء مؤامرة، رُسِمَت بمهارة، وكانَ ضحيتها المباشرة، عمليّة الإصلاح والتغيير، وما كان عليهما، أو يُفترض منهما.
المؤامرة، لا تشترط في كلّ الأحوال طَرَفاً خارجيّاً أو دولة "استعمارية" لها مصالح ومراكز وثوب في البلد المستَهدَف. ويكفي أحياناً أنْ تتقاطع مصالح الطبقة السياسيّة الحاكمة، حتى من "اللون الواحد" طائفيّاً، كما في حالة عراقنا المأزوم بصراعات حكّامه، لتكتمل شروط تفاقم أزماتٍ تقود إلى ما يُشبه فعل مؤامرة..!
بعد شهورٍ من الحراك والمطالبات بالإصلاح، واقتحام الخضراء ودخول "الحرم البرلماني"، وتلويث مصطبة الضيافة الرئاسيّة، وتلويح العبادي بمظروفٍ مغلقٍ على دزينة من وزراء تكنوقراط، صرنا نتحرّج خشية إنفلاق "صندوق باندورا" علينا، وقد أحاطتنا شرورُ العالم السفليّ، وسحبت ما تبقّى من حاشية بساط الإصلاح من تحت أرجُلنا، بعد أنْ ضيّقتِ الخناق على صاحب فِرْية الإصلاح ووضعته في حالة لا يُحسد عليها، والحيرة تحاصره أنّى تلفّتَ أو استدار في حُرمة تحالفه الوطنيّ. لا يدري أعليهِ أنْ يُواصل دور المُصلح أم يقبل بما قُسِم له من دور يبدو آمناً، بعد قرار المحكمة الاتّحادية الناقض لشرعية جلستي البرلمان الشهيرتين واعتبارهما باطلتين، لتنتهي معه مشقّة بحثه عن بدائل مقبولة لمظروفه المغلق من الوزراء التكنوقراط المستقلّين..!
البعض من المؤمنين بنظرية المؤامرة، يُروّجون إلى أنَّ إرادة أميركا وإيران هي التي خلطت الأوراق، ودفعتْ باتّجاه حَرفِ مسار الحِراك والتظاهرات، ودسّتْ فيها مَنْ قادها إلى خياراتٍ لم تكن تؤدّي إلّا إلى ما انتهتْ إليه الأوضاعُ، حيث شُلَّتِ السلطةُ التشريعيّةُ وتَعوّمَتِ السلطة التنفيذيّة، وأُجهِضَتْ عمليّةُ الإصلاح.
وما يُعزِّزُ موقف أصحاب نظريّة المؤامرة، مظاهر تشي بعودة أمورٍ كثيرة إلى ما كانت عليه قبل الهيجان السابق لاقتحام البرلمان واعتصام السيد داخل الخضراء اللّعينة، ولم يكن لعاقلٍ أنْ يتوقّع غير هذه النهاية، وإلّا أكان عقلانيّاً أنْ يجري الرهان على استسلام الطبقة السياسيّة ونزع أسلحتها الفتّاكة ورفع أياديها "البيضاء" أمام زحف الجماهير الصدريّة المطالبة بإنهاء المحاصصة الطائفيّة وتسليمها مقاليد السلطة بالإنابة عن وزارة تكنوقراطيّة " قيد التشكيل" بإشراف الشيخ سامي عزارة المعجون، طيّب الذكر والسيرة المحمودة المعروفة بين أوساط المعارضة وقادة العملية السياسيّة بالتحديد..!
أكان عقلانيّاً أنْ يتوقّع سياسيٌّ عاقلٌ أنْ تُلغى المنظومة السياسيّة للمحاصصة الطائفيّة، وتنهار فوق رؤوس مُؤسّسيها، بمجرّد هجومٍ مشحونٍ بالغضب ملتبس التوجّه والنهايات على بوّابات الخضراء، مع التلويح بحمايةٍ مُسلّحةٍ مِن ميليشيا تحمل هويّة مناقضة لميليشيات، هي الأخرى مُدجّجة بالسلاح والعتاد، سرعان ما انتشرت في مواقع ستراتيجيّة لحماية مراكز السلطة ومواقع أربابها وصُنّاعها وأصحاب القرار فيها..؟
ليسَ لكُلِّ هذا علاقة بنظرية المؤامرة، ولا شأنَ مباشراً في صنع أحداثها لإيران أو لأميركا، فاللّاعبون الكبار لن يدخلوا في مضامير الصغار، ولن يتنازلوا عن تراتبّياتهم في المشهد السياسيّ. ولا بدَّ لنا أنْ نعترف بأنّ ما جرى إنّما هو من صناعة الصغار الذين لم يَعُد بينهم مَنْ يأبه بمصير ما ظلَّ السَّذّجُ من أمثالنا يتغنّى به باعتباره وطناً.. إنّهم مشغولون بترتيبات ما بعد داعش، وما تقتضيه مِنْ تغييراتٍ في موازين القوى وما تتطلّبه من تبادلٍ لمواقع النفوذ والقرار والهيبة والمغانم.
ونظرة لما بعد قرار المحكمة الاتّحادية، تكفي لاستبصار حالة الحكومة التي عادت كما كانت عليه، وضاعت "فرصةُ الشعب" لمعرفة الأسباب التي دعت السيّد العبادي للتضحية بحكومته، ودوافعه الخفيّة لتغييرها، جُزئيّاً في البداية، ثمّ على دُفعات، ثمّ بِقضِّها وقضيضها، كما لو أنّها صارتْ في لحظةٍ عابرةٍ بلا صلاحيّةٍ ولا انسجامٍ، ولا طاقةٍ لمدِّهِ بأسباب الجسارة المطلوبة للقيام بإصلاحاته الجذريّة..!
وما علينا إلّا أنْ نُمعِنَ مَليّاً في تعليق رئيس مجلس الوزراء على قرار المحكمة الاتّحاديّة بإبطال التصويت على وزرائه الخمسة في الكابينة المستقّلة، شهيدة المؤامرة المزعومة: ليس لي مشكلةٌ معَ الوزراء..!
والعَودُ أحمد..