منذ سنوات والحركة المدنية الديمقراطية العراقية تؤشر بإصرار، بل بعناد صائب، وموضوعية، إلى مواقع الخلل الكبرى بالدولة العراقية، مواطن الخلل القاتلة، التي أصابت بالأساس حياة وحقوق الشعب الكادح وحرياته وكرامته بشكل مباشر. لقد وضعت الحركة المدنية يدها على الجرح الكبير النازف دوماً، على النظام السياسي الطائفي القائم وعلى القاعدة المحاصصية، التي تعمل بها الأحزاب الإسلامية السياسية والقومية العربية والكردية، والتي أدت بدورها وبشكل مباشر إلى تفاقم الإرهاب والفساد، وكانت الحصيلة: المزيد من القتلى والجرحى في صفوف الشعب العراقي وخاصة في صفوف الكادحين والفقراء والمعوزين من جهة وتجويع ذات الفئات الشعبية التي كانت هدف الموت اليومي من جهة أخرى، والمزيد من الخراب والدمار وتغييب التنمية كلية وتراجع الخدمات العامة عن الكادحين، وليس المنطقة الحرام ، الخضراء، من جهة ثالثة.
وعندما تفاقم الوضع انفجرت جماهير شعبية واسعة في شهر شباط من العام 2011 لتتظاهر بحماس ومسؤولية، معلنة رفضها للحكومة العراقية وسياساتها وفساد النظام السياسي القائم ومجلس النواب والقضاء العراقي، وطالبت بالتغيير، فتوجهت له الأجهزة القمعية بالضربة الموجعة التي نعرفها جميعاً، فاعتقل من اعتقل واستشهد من استشهد، وبقي بطل الضربة الموجعة ضد الشعب، المستبد بأمره نوري المالكي وتحالفه وجلاوزته في الحكم. لم يكن تراجع الحركة ناتجاً عن خطأ في الاستراتيج والتكتيك ارتكبته، أو خطأ في الأهداف التي رفعتها الجماهير بإصرار، بل بسبب ضعف الحركة وضعف المؤازرة الشعبية للمتظاهرين وبطش السلطة الفاسدة وأحزابها الأكثر فساداً.
أما اليوم فنحن أمام حركة مدنية ديمقراطية شعبية قادرة على الصمود لفترة أطول، وقادرة على توعية المزيد من البشر بأوضاع العراق الكارثية والمأزومة. وبوصلة الحركة كانت وما تزال صائبة وصادقة ولم تخطء الهدف ولا الوسيلة، ولكنها ما زالت ضعيفة وبحاجة إلى المزيد من التوعية والتثقيف والتعبئة ومزيد من الشبيبة العراقية من النساء والرجال للمساهمة بالحراك الشعبي وتطويره وتنويعه، وخاصة من الفئات الشعبية الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام الطائفي ومحاصصاته، ومن استشراء الفساد والإرهاب والحرمان والموت المستمر. وعلى الحركة أن لا تلتفت لأولئك الذين يساهمون بصورة موسمية ومزاجية غريبة مترددين وخائفين من انفلات الحركة الشعبية من أيديهم وعواقبها على وجود التحالف الشيعي في السلطة أصلاً.
واليوم اكدت جلسة مجلس النواب لاستجواب وزير الدفاع خالد العبيدي من جديد على إنها كانت وما تزال صائبة ودقيقة في تشخيص طبيعة الحكم الفاسد وحكامه وسقوط الغالبية العظمى منهم وبصورة كارثية في مستنقع الفساد والرذيلة، ونهب موارد الشعب وتجويعه. نحن أمام لوحة مريعة قاتمة لنظام سياسي يعود لقرون خلت، يحكم الشعب بالخداع وتحت واجهات دينية مزيفة ومشوهة كانت وما تزال قادة على تزييف وعي الناس وإضعاف قدرتهم على إدراك واقعهم المأساوي المرير.
لقد كشف خالد العبيدي ما كان معروفاً للكثير من الناس منذ سنوات، وبخاصة للمتظاهرين أيام الجمعة من كل أسبوع. وإذا كان هذا الكشف قد سلط على مجموعة صغيرة من أقطاب الأحزاب الإسلامية السياسية السنية، وخاصة الحزب الإسلامي (جماعة الإخوان المسلمين بالعراق)، فأن ما لم يطرح عن بقية هذه القوى السنية والقومية العربية من جهة، وعن الأحزاب الإسلامية الشيعية والأحزاب الكردستانية، والتجار والمقاولين والعقاريين السماسرة من جهة ثانية، أكثر بكثير مما عرض في مجلس النواب من جانب وزير الدفاع حتى الآن.
لم تعد تنفع المساومة مع الحكام الفاسدين، ولم يعد مقبولاً التحري عن، أو المطالبة بـ "عملية ترقيع" الحكومة الراهنة بوزراء تكنوقراطيين نظيفين، فهم لن يكونوا سوى براغي غير فاعلة في مفاصل غير مهمة في الماكنة الفاسدة المتحركة بإرادة الأحزاب الفاسدة وغير الشرعية في الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، استناداً إلى الدستور العراقي الذي يحرم قيام أحزاب سياسية على أسس دينية – طائفية مدمرة لوحدة الشعب ونسيجه الوطني وإرادته الحرة. وأرى إن الحركة المدنية الديمقراطية السلمية قد أدركت هذه الحقيقة المرة، وعليها أن تعمل بها، وإلا فالطريق نحو الخلاص من الطائفية المقيتة الحاكمة أكثر وعورة وأكثر تدميراً وقتلاً في أبناء الشعب وأكثر فساداً وسطوة على المال العام وتجويع الشعب.