يستحيل أن تجد دولة في هذا العالم، رغم وجود عشرات الدول الفاسدة فيه، فاسدة كدولة العراق بسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضاء، ويستحيل أن تعثر على دولة تضحك على ذقن شعبها المستباح في مشارق الارض ومغاربها كدولة العراق، ويستحيل ان تجد، في هذا العالم الرحب بملياراته السبعة من البشر، اناسا فاسدين بوحشية كما بالعراق. كما يستحيل أن تعثر على دولة وصل فيها حجم الفساد المالي كما وصل اليه بالعراق خلال السنوات العشر المنصرمة. والمجتمع بات يؤكد، إن دولة العراق الهشة، فاسدة بنظامها وحكامها والغالبية العظمى من سياسييها وتجارها وشركاتها وبنوكها والمسؤولين من أعضاء الأحزاب الحاكمة والمؤثرة في السياسة العراقية المزرية.
قُتل مئات الألوف من العراقيات والعراقيين خلال السنوات الاثني عشر المنصرمة، واُغتيل الألوف منهم بأدوات مختلفة، ونهبت المليارات من الدولارات الامريكية من خزينة الدولة العراقية، فشُكلت لها لجان تحقيقية كثيرة، ولكنها لم تخرج خلال السنوات العشر المنصرمة بنتيجة فعلية تكشف عن القتلة والحرامية لأنهم منهم فيهم. ولكنها وبسرعة خاطفة استطاعت ان تقرر الإفراج بأقل من عدة ساعات عن رئيس مجلس النواب العراقي، بسبب عدم كفاية الأدلة، وستفرج السلطة القضائية طبعاً عن بقية النواب والتجار الذين وجه لهم وزير الدفاع تهمة الفساد والوساطة غير المشروعة ... الخ.
وعلى وفق مطبخ المساومات ستتم الإطاحة بوزير الدفاع، الذي وجه الاتهامات لرئيس مجلس النواب وبعض النواب والتجار، لكي لا يتكرر المشهد الذي حصل في مجلس النواب من جانب وزراء آخرين، فمثل هذه الممارسات في بلد الفساد الفاحش والرثاثة السائدة محرمة ولا يجوز لها ان تتكرر.
مساومات السلطات الثلاث بالدولة العراقية مخزية إلى حد اللعنة ومذلة للشعب العراقي، ولكن لا حياء لمن فقد الحياء أصلا. فالنهب والسلب جار على قدم وساق دون حياء من جانب حكام العراق والكثير من سياسييه وقضاته من جهة، وعدد الذين تحت خط الفقر من بنات وأبناء الشعب العراقي بارتفاع مستمر ومتسارع من جهة اخرى، فما العمل؟ علينا هنا ان نتذكر قول الصحابي الشهيد، الذي استشهد على يد معاوية بن أبي سفيان عملياً، أبو ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه".
وبالأمس (5/8/2016) أعلنت أمانة بغداد منح منزل مؤسس النظام المالي في العراق وأول وزير مالية في حكوماته ساسون حسقيل، وسط بغداد، لأحد المستثمرين بعد هدمه، وعدت أن المنزل "غير تراثي"، في حين اتهمتها وزارة السياحة والآثار بـ"التجاوز على القانون" باستثمار منزل تراثي." (جريدة المدى، 6/8/2016). فهل يحق لأمانة بغداد ارتكاب مثل هذه الجريمة بذاكرة العراق الحضارية، وهل هو جهل بالتراث وأهميته، أم عنصرية المسؤولين عن اتخاذ هذا القرار؟ فساسون حسقيل واضع النظام المالي العراقي وصاحب المطالبة بدفع ثمن البرميل من النفط ذهباً وليس بالسنتات الإسترلينية. إنها جريمة عنصرية خبيثة، لأن فقيدنا الطيب الذكر ساسون مواطن عراقي فذ ووطني غيور ويهودي الديانة!
إن الحراك المدني الشعبي يواجه دولة فاشلة ورثة، وهي غير قادرة على إصلاح ذاتها، بحكم طبيعتها والمصالح التي تمثلها وتدافع عنها، دولة تبرهن يوما بعد آخر بأن نظام الحكم الطائفي المحاصصي فيها ظالم ومستبد ورث وغير قابل للإصلاح، لأن بذرة موته كامنة فيه وفي نهجه وسياساته. وكشف طبيعة هذا النظام ونهجه وسياساته من مهمة هذا الحراك المدني والقوى المدنية والسياسية المؤيدة له. فمواصلة التظاهر وإيجاد أساليب جديدة لتحفيز الشعب على النضال الحازم والهادف للتغيير، اصبحت من المهمات التي لا تحتمل التأجيل. والشعب بحاجة الى خلق حركة مدنية شعبية ديمقراطية في مقدورها الوصول الى المزيد من البشر الكادح بأساليب غير تقليدية وجديدة قادرة على إقناع الناس بأن سكوتهم على ما يجري من اغتصاب لإرادتهم ومصادرة فعلية لمصالحهم ومستقبل الأجيال القادمة، سيزيد الحكام تجبرا وفسادا ورثاثة، وسيعيد إنتاج الرثاثة من استبداد وفساد وإرهاب، ومن فقر وجوع وحرمان في آن واحد.
الحراك المدني الشعبي بحاجة الى الاقتراب أكثر فأكثر من الناس الكادحين والمثقفين وابناء الفئات الوسطى، بحاجة ماسة الى شبيبة، ذكور وإناث، مقدامة جريئة وواعية وفاعلة. لا يمكن ان يتغير الوضع دون حركة جماهيرية عارمة، فالحركة ما زالت حتى الآن تقف على مسافة غير ملتصقة بأوسع الجماهير، ولكن في الحركة التي يخوضها المتظاهرون والمحتجون بركة، وهي القادرة على اجتراح المعجزات. الشعب هو الأمل، رغم ما يعانيه من تشويه وتزييف لوعيه ومصالحه وإرادته، وعلينا العمل عليه ومعه ويدا بيد صوب التغيير الذي لا خيار غيره والذي يوفر مستلزمات الإصلاح الجذري لواقع العراق الراهن.