اكتب انا الانسان البسيط، البعيد عن الساحة، ولكني حاضرٌ بهويتي الإثنية والوطنية، عملت اكثر من اربع سنوات في مشاريع طرق دهوك، وسنتين نصيراً في الجبال ضد الدكاتورية الحاكمة، بقبضة من الحديد والنار. منذ نعومة أظفاري نشأت في بيئة مجاورة، لقاطني قرى من الأكراد خلف جبل القوش وفي سفحه، كنا نتبادل المنتوجات الزراعية بالمقايضة( فواكه مقابل الحنطة) عموماً، وباقي التعاملات التجارية، وقسم كبير من اهلنا اجادوا اللغة الكردية، كان والدي حتى خروجه من العراق عام 2007 يرتدي الزي الكردي التقليدي، ولا يمكن ان تجد في تسجيلاته وحتى اليوم غير الأغاني الكردية، من خجي- سيامند الى حسنانو- حيدره الى غزال- غزل، وكذلك ولدي المولود خارج العراق لا تخلو ابداً سيارته وهاتفه المحمول من الاغاني الكردية الجميلة. كان ذلك قبل ان تحترق المنطقة بسلسلة حروب دامية، منذ عام 1961، غذتها حكومات عنصرية، وإستهدفتنا جميعا اكراداً وأيزيدية ومسيحيين، كانت تبغي فرض هيمنتها ووصايتها علينا، وتعاملنا كمواطنين من الدرجة الثاني والثالثة، مورس التعريب ضدنا، وضمت المقابر الجماعية نسيجنا الاجتماعي، ومرّ خيرة شبابنا تحت سوط الجلاد وسيفه في السجون الرهيبة.
بعد انتفاضة اذار 1991، الهجرة المليونية، وفرض منطقة آمنة في الشمال، اصبح الاقليم شبه مستقلاً، واعتقد بدأ من ذلك الحين يخطط للانفصال، وشرعت تتغير معالم المنطقة الى كردية بمعظمها، ابعدت العربية عن التداول والدراسة وتسمية المعالم، بعد مرور ربع قرن احتاج الشعبين العربي والكردي بشكل عام الى مترجمين بينهم، وبالمقابل انهكت تلك المرحلة من الحصار الظالم باقي اجزاء العراق، فعاشت الفاقة والحرمان، والحصار المزدوج.
عند حلول 2003 تصور الاكراد بعد سقوط الدكتاتورية المدوي، بان العراق سيغدو دولة ديمقراطية، ومفتاحاً لشرق اوسط جديد، فوضعوا كل ثقلهم في التفاعل مع التغيير، الذي لم تجري رياحه كما تشتهي السفن، بل سادته الفوضى ونشب القتال تحت ذريعة مقاومة الاحتلال، ليشعل الاوضاع، باستثناء الاقليم الذي كان يمر بطور مختلف، بعد توفر الحماية الدولية له. استثمر الوضع الجديد الاكراد لصالحهم وبغية انفصاله اللاحق، عندما غرق العراق بجرائم داعش الارهابية بخاصة بعد عام 2014 ، وضح الاكراد خططاً اضافية في توسيع مناطق سيطرتهم بالقوة، في غمار حرب الارهاب وداعش المفروضة، كركوك تم السيطرة عليها بالكامل في تلك الفترة. بعد ان استفحل الوضع، لم يعد بالامكان الاستمرار، فقرروا اللجوء الى ورقة الاستفتاء، لتشمل حتى المناطق المسماة" متنازع عليها" وغيرها من المناطق العائدة تاريخيا الى المكون المسيحي والايزيدي بخاصة، لقد اراد الاكراد النأي بأنفسهم عن الاوضاع القائمة، واستغلوا فرصة الخراب الشامل الذي خلفه داعش في المحافظات" السنية" اذا صح التعبير، مضى الاكراد وعندما نقول الاكراد لا نقصدهم بالمطلق بل نركز على احزابهم المتنفذة في بهدينان وسوران، فاستخدموا كل الطرق لاستمالة الناس وكسبها، وحتى الذين كانوا ادوات بيد النظام السابق من العسكريين والمرتزقة( الجحوش) والمخابرات، اضافة الى الشيوخ ورؤساء العشائر استمالوهم، بطريقة العصا والجزرة المعروفة، والتي طبقها صدام قبلهم، فاحكموا السيطرة على المناطق والاوضاع بقوة ونفوذ الاحزاب، وفتحت الباب على مصراعيها للتدخلات الدولية وخصوصا الاسرائلية والتركية وحتى الايرانية، باتت شركات واسثمارات ومقاولات تصول وتجول واستحوذت التركية منها على حصة الاسد، بخاصة على الاقتصاد وتصدير النفط وعمليات البناء والتوسع التي ضاعفت المدن والبلدات في الاقليم، الى اضعاف ما كانت عليه قبل عام 1991.
بعد هبوب الرياح الاسلامية على المنطقة، جراء الصراع العربي الاسرائيلي المزمن، انتبهت تركيا التي كان اقتصادها في اضعف حال، ايام رئاسة توركوت اوزال حكومتها في مطلع التسعينات، وايضا ساهم انهيار الاتحاد السوفيتي الذي انبثقت منه جمهوريات اسلامية قريبة من تركيا، فتفاعلت كل تلك العوامل الى وصول حزب العدالة والتنمية فيها ذات التوجه الاسلامي، وبقيادة اردوغان الذي وجه انظاره بقوة الى العمق الاسلامي وعمقه التاريخي من سنين حكم الدولة العثمانية، فكانت اولى محطاته اقليم كردستان.
هكذا لعب طور التسعينات دوره في تشديد الحصار الاقتصادي على الشعب العراقي، فيما انتعش وضع الاكراد المستقر نسبياً، بفضل المظلة الجوية والمساعدات الاجنبية في استتباب الامن في الاقليم، ونهوض ثقافي وفكري واجتماعي لا ينكر، باستثناء ما تخلل ذلك من اقتتال بين الفصيلين الرئيسيين في اواسط التسعينات، وتدخل قوات صدام لصالح احدهما في السيطرة على اربيل.
بعد السقوط انهارت البنية التحتية للدولة العراقية، وحل الجيش العراقي، وشرعت الحرب الاهلية الطائفية على خلفية الاحتلال وبذريعة مقاومته، كل ذلك والاقليم له تجربته في الادارة والاقتصاد الذي تنامى اكثر فاكثر بعد السقوط، وتخللتها موجة ثراء وامتيازات طبقية وعشائرية وحزبية، وكذلك سوء ادارة وفساد مستشري وانغلاق خانق. لمن لا يعرف ماذا حصل في الاقليم على مدى الربع قرن الاخير عليه مراجعة تقارير منظمات حقوق الانسان، ومنظمات الدفاع عن المرأة، وكذلك نزيف الهجرة من الاقليم الى الدول الاوربية بخاصة. كل تلك الامور عكست نفسها لواقع غير مشجع ولا مؤهل للانفصال، كدولة تستطيع الحياة ومقاومة عاديات الزمن.
مع اقتراب نهاية داعش وسيطرته على مدن كبرى ومساحات واسعة، تصاعدة نبرة الاستقلال بشدة، ولهذه المسألة اسبابها التي اشرنا اليها، ولم تحظ الخطوة بتأييد من العالم أجمع باستثناء اسرائيل، التي هدفها خلق بلبلة وكيان مقتطع له خاصية جذب وتجاذب مع المحيط من الدول الاخرى، وهي كل من تركيا وسوريا وايران. اسرائيل في كل محن العراق كانت تركز عليه اعلامها وجهودها، لانه ارض السبي البارز في التاريخ للشعب اليهودي في حقب ملوك اشور وبابل، ان نظريتها المعروفة دولة من النيل الى الفرات، لا زالت تحمل كامل حيويتها واندفاعها للتمدد في الشرق الاوسط، المكان الاكثر اهمية في العالم لجملة اسباب، وفي مقدمتها انه مثوى الرسالات السماوية الثلاث. بدل ان تفكر بطريقة اتباع نهج التنازلات المتبادلة بينها وبين الفلسطينيين، لايجاد ارضية صالحة لوضع حد للصراع الاسرائيلي- العربي، الذي يترك الشرق الاوسط برمته غير مستقر تنهشه الازمات والحروب. لا اعتقد هذا الزواج غير المقدس بين الكيانين، ستكون له دوامة الاستمرار والنجاح، ولنا تجربة تاريخية بهذا الخصوص في بداية سبعينات القرن الماضي، وتحالف الحركة الكردية انذاك مع ايران الشاه محمد رضا بهلوي، ثم فجأة تخلى الشاه عنهم في اتفاقية الجزائر عام 1975، فانهارت الحركة الكردية وذاقت طعم هزيمة، تحملها شعبها بمرارة لعقود قادمة.
عندما تنضج ظروف الانفصال على اساس حق تقرير المصير، يتم على اكمل وجه، وحدود دولته ستكون عشرات اضعاف هذا الجزء القلق المتوتر، والمستعد لصراعات مسلحة غير محمودة العواقب، ستكون دولة كردية شاملة ديمقراطية تمتد في تركيا وايران وسوريا، وتضم عشرات الملايين من الاكراد المهيئين فكريا وثقافيا وسياسيا لهذا المولود الجديد الذي تتزين به منطقتنا، لا كما يمضي الاخوة اليوم لولادة دولة مشوهة متوترة، جذبت اليها الاعداء من كل صوب، وحتما ستحرق صراعاتها المقبلة كل البناء والتقدم الذي حصل في الربع قرن الاخير، بعد ان اخلت مرغمة دكتاتورية صدام مواقعها في شمال العراق غير مأسوف عليها.
انا اكتب ويكاد عقلي وفكري وما اختزنتُه في دورة حياتي من متابعة ومطالعة، لا يحتمل تجزئة العراق، هذا الوطن الجميل المتعدد الاقوام والطوائف والاديان، وكذلك التضاريس المناخية، والعادات والتقاليد المختلفة، لا ينبغي ان يحدث انقسام فيه في ظروف الحاضر الدامية، في مواجهة الارهاب متعدد الوجوه والغايات، الطائفية والمحاصصة، وتدخل الدين الفض في امور الدولة، والتدخلات الاقليمية التي لم تتوقف، العراق بحاجة الى وحدة وطنية، ودولة مدنية، فيها السلم الوطيد، وفيها العدالة الاجتماعية، والغد لناظره قريب، والوطن الحُر السعيد على مرمى حجَر.