الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
صادق برنو على عتبة اليوبيل المئوي

ولد صادق ياقو ميخا برنو كوريال برنو في القوش، وفي بيت يقع مباشرة خلف كنيسة ماركوركيس الفخمة بمحلة قاشا، وكان عماذه بعد فترة من قبل القسيس يوسف منصور سمعان كادو، وتقدم بحمله ابن عمته صادق ججو( فيما بعد البطريرك مار بولص شيخو 1906- 1989) . والده ياقو كان شماساً وابن شماس( شماشا ميخا) حتى طغى الأسم الأخير على لقبهم العائلي فترة من الزمن، ومعروف ان عائلتهم واصل تسميتها من السريانية( بر نون) هي من العوائل القديمة جداً في البلدة، لازالت في ريف بابل قرية بإسم برنون على مشارف نهر الفرات الى يومنا هذا.

شق صادق طريقه في الحياة وكان يتلقى دروسه الاولى في مدرسة مار ميخا النوهدري المقابلة لبيته، ومن المعلمين الذين درس على ايديهم كل من سعيد ججاوي الياموري( 1899- 1982) كوركيس عواد( 1908- 1992) نعيم صرافة( 1906- 2003) وبعد زمن تحديدا عام 1931 اوقفه والده من الاستمرار ليساعده في مهنته صنع البرادع(ܥܒܼܵܕܵܐ ܕܪܘܼܫܘܵܢܸܐ) حيث كان يردد قائلاً" ما حاجته للمدرسة، والصنعة التي في يدنا تجني الذهب والفضة" علما بأن الكثيرين زاولوا تلك المهنة من بيتهم، وكان آخرهم سليمان حنا برنو الذي يعيش حالياً في مشيكان.

لم يكن طموح صادق ان يبقى أسير نمط واحد من العمل، فسرعان ما غيره ليصبح سائق صهاريج النفط، ومدة اخرى في باصات نقل طلبة المدارس الاهلية في بغداد، المجالات الأخيرة منحته فرصة للتعرف على المدينة والاستفادة من معطياتها ومباهجها وكذلك حياتها. كل ذلك لم يخدره ليذوب فيها فتعلق بكنيسته، وواظب على تعلم واتقان لغته السريانية، بل تفوق فيها ليصبح خطاطاً وشاعراً ومرنماً، ثم شماساً قديراً، حيث نال درجتها عام 1942 في القوش على يد المطران مار حنا قريو يقوندا( 1874- 1946) ، ونذكر بعض اقرانه في نفس السيامة: بيوس ججو شيخو، زورا جبو لاوو، صادق شكوانا، صادق بولا، الياس ملوكا، ميا اسمرو، موسى متوتا هومو، الياس ميخا صفار، ابرم عما منصور، وغيرهما.

لنسمع منه قصة زواجه: اصبحت مهيئاً للزواج بعد بلوغي السابعة عشر من العمر، انذاك كنت الولد الوحيد لوالدي، لن تصدق اذا قلت لك بان اجمل الجميلات في محلتنا، كان اهلهن يتمنين مصاهرتنا. دخل يوماً المعلم  يوسف ميخا ججو رئيس( 1895- 1978) الى بيتنا، وقال لأمي سرة ميخا صفار، لماذا لا تزوجون صادق؟ فقالت له ، نحن نفكر في الأمر، سيما وان جده ميخا يتمنى ان يرى حفيده متزوجاً قبل موته. بعد ذلك اصبحت الأم وبناتها الأربع يجبن البلدة بحثا عن فتاة مناسبة، في تلك الايام كان المرحوم شمعون بولاذ يلدكو، يعمل في خدمة مدير الناحية بهجت عبد الأحد قليان( توفي في الموصل عام 1951) الساكن في بيت المعلم يوسف في اقصى شرق البلدة، وكانت تعاونه في بعض الاحيان زوجته وابنته، علما بان علاقتهم تمتد الى والدة شمو وتوما، فعندما تيتمت صارت تخدم في بيت عبد الأحد قليان بالموصل، آنذاك كان بهجت صغيراً.

كانت امي واخواتي يذهبن الى الكنيسة في القداس الاول، ورغم ضعف التركيز على ضوء شموع الكنيسة، فقد رأين الفتاة مع والدتها التي كانت في الأخوية المقدسة، أعجبن بها كثيراً كونها جميلة وشقراء، لذلك وقع اختيارهم عليها، وهي نفسها التي اقترحها المعلم يوسف. خطبناها وعقدنا نيشانها، هناك قال والدها شمو: انهم تركوا شباب محلة سينا، ورضوا بهذا الشاب القادم اليهم من محلة قاشا( نادرا ما كان يخطب الواحد فتاة من محلة اخرى) بعد الخطوبة قال بهجت قليان للعم شمو، ليأت الخاطب حتى اراه واقرر هل هو في جمال أغاتا، فرتبنا زيارة له وذهبنا الى بيته، رآني عن قرب مع خطيبتي، ثم بعدها غادرنا بيته، فسأله العم شمو عن رأيه، فقال: عسل على عسل، نعم الإختيار فهم لائقون لبعضهم البعض.

كنا نجهل عمرها وتصورنا انها بالغة  فاخذنا نتهيأ للزواج، وكانت ايام قبل الصوم الكبير، ذهبنا الى القس فرنسيس حداد( 1892- 1942) فقال لنا بعد ان فتح سجل العماذ، ان عمرها ينقص اكثر من ستة أشهر، فعلقنا الزواج الى ان اكتملت 12 سنة، وتم الزواج في 26- 10-  1937 برعاية القس بولص شيخو، وكانت الحفلة على صوت الطبل والمزمار في ساحة مار ميخا مقابل بيتنا. في عام 1938 ولدت ابنتنا البكر صبيحة، وبعد مدة ولدت امي( كانت متوقفة عن الانجاب) اخي المرحوم ميخا، ثم ولدت لنا سورية، بعد ذلك ولدت امي اخي الثاني داود، وزوجتي ولدت ابني نوئيل، وتوالى الاولاد والبنات الى ما شاء الله: ستة أبناء وست بنات.

نظرا لحسه الوطني والطبقي المتنامي فقد تعاطف مع الأفكار السياسية السائدة آنذاك، لفترة من الزمن مع شباب من عائلته، ولذلك عندما وقع انقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 اعتقل  في سجون الموصل الرهيبة، ونال قسطا من المعاناة والشدائد في تلك الايام الحالكة. ولنسمع منه القصة: كان يوم الأحد، خدمت في الصباح المطران المرحوم ابلحد صنا في الكنيسة، وبعد رجوعي الى البيت، دخل المختار اسحق حنا جونا زرا وقال ان المطران يريدك، ذهبت الى دار المطرانية( قوناغ) فشاهدت أناس كثيرون في الحوش، صعدت واذا جالس في الديوانخانة مدير الناحية وكاتبه ومأمور المركز وبعض الأشخاص، سلمت عليهم وجلست، دعاني المطران الى التحدث على انفراد، دخلنا غرفة وقال لي: الحكومة طلبت مني ان ابلغكم بان فيكم رجال يتسلحون ويتعاونون مع الحركة في الشمال، وقال ايضاً  نريد ان نبرأ انفسنا باننا لسنا ضد الحكومة بل نحن معها، وان اسمك من ضمن تلك الاسماء ، فهل لديك مانع في الصعود الى المركز وتسليم نفسك طوعاً؟ قلت ابداً لا مانع لدي، وصعدت الى القشلة وهناك قال المدير اهلاً أهلاً بالشماس، قلت له دعني اذهب الى البيت لأغير ملابسي، وكنت مرتدياً الشاله وشبوك، فسمح لي بذلك.

اقتادونا الى سجن في الموصل، هناك احسنوا استقبالي وقدموا لي الشاي قائلين: انت سلمت نفسك بنفسك لذلك، اذا لم يثبت شيء ضدك فخلال اسبوع او اسبوعين ترجع الى بيتك، بعد ايام دسّوا احد الجواسيس بيننا،  وكنا حوالي 12 رجل فصار يشتم الحكومة ويفضح اعمالها، وثق بعض اصحابنا به، واخذ اثنان منهم يتحدثان بحماس، وكيف اصطدموا بقوات الحكومة وكيف يأتيهم السلاح والأدوية، وفي اليوم الثاني طلب ذلك الشخص من الحارس مواجهة المدير، ذهب وبعد فترة قصيرة جاء المدير وهو يستعر غضباً، وانهال علينا بالإهانات والشتائم، وحاول التقرب مني، فقال ذلك الجاسوس بانني لم اتكلم بشيء، وأُخذ الشخصان وعذبا بشدة، كنا نسمع صياحهما ولم يرجعوهم الينا، إلا وهم على مشارف الموت، وتغير التعامل معنا من جيد الى سيء، ولم يطلق سراحي الا بعد قضائي اكثر من سنة وشهرين في ذلك المكان الرهيب. دخل البلد في مزالق خطيرة وازداد سعير الحرب في الشمال، واصبحت الحياة الاقتصادية والأمنية في القوش غير مستقرة، فيممت شطر اميركا في عام 1967، بمساعدة ابنتي سورية المتزوجة من المرحوم صبري دنحا عام 1957.

عندما وصل الى هذه الديارالغريبة والبعيدة كل البعد عن موطئ آبائه وأجداده، شمر عن ساعديه الجد، للعمل والتأقلم مع الحياة الجديدة، دون ان يقطع صلته بالوطن الأم فظل على تواصل، وتشاء الظروف القاسية التي مرّت على بلاد النهرين، خلال النصف قرن الماضي، ان تسوء احوال شعبنا، فشرعت الناس زرافات ووحدانا، تهاجر وتغادر البلد تباعاً، وعلى مر العقود الماضية، دون توقف حتى يومنا هذا.

لعب صادق برنو وعائلته دوراً، في استقبال ومساعدة سيل المهاجرين منذ اوائل سبعينات القرن الماضي، واشتدت من خلال الحروب العبثية المتواصلة، والصراعات المختلفة وتدخل دول الجوار وغيرها من العوامل التي يطول تعدادها وشرحها، فاصبح الميزان الحالي مختلّاً ، فالأكثرية اصبحت هنا والأقلية في البلاد، وحياتهم هناك لا تخلو من صعوبات.

اهتم صادق بتراث الآباء فطور لغته السريانية نحواً وخطاً، وقرأ امهات كتبها ومصادرها، واعاد الحياة الى العديد من صفحاتها التي أتعبها الدهر، فإصفرت وتهرأت، وكذلك المزامر والقصص والاشعار والأمثال والخطب المنسية والقديمة، والتي كاد تراب النسيان ان يغطيها لولاه، فأعاد طبعها واحيائها وتسجيلها من جديد، بالآلات الحديثة المتوفرة في اميركا، واقتنى طابعة بالأحرف السريانية من فرنسا لهذا الغرض. آل على نفسه العهد ان يعيد طبع بعض الكتب على حسابه الخاص، وبحوزتي الكتب التالية التي اعاد طبعها في ثمانينات القرن الماضي وهي: أثر قديم في العراق دير الربان هرمزد– تأليف كوركيس عواد- 1989، خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية- تأليف الكردينال تيسران- ترجمة القس سليمان الصائغ- 1985، الديورة في مملكتي الفرس والعرب- تأليف المطران يشوعدناح- ترجمة القس بولص شيخو- 1989، هناك عشرات الكتيبات والنشرات والتخطيطات التي وضعها او طبعها، وقد ادرجها الكثيرون من زملائي في السابق، لذلك لا أرى ضرورة لتكرارها.

بعد وصولي الى هذه البلاد المترامية، زودني ابن عمه يونس حنا برنو، كاسيت بصوت الشماس لقصيدة المرحوم القسيس يوسف عبيا التي وضعها عام 1932، بمناسبة مرور مئة عام على غزوة الأمير الراوندوزي محمد باشا لألقوش، والتي امعن فيها قتلاً وسلباً ودماراً، حفزني ذلك لكتابة مقال بعنوان" نكبة القوش الكبرى" والذي نشرته في مجلة القيثارة، ثم ضمّنته في كتابي المعنون" الرئاسة في بلدة القوش" الصادر عام 2001.

على طول مدة وجودي هنا، صرت ألتقي به فيزودني بكل جديد لديه، وقد حصلت منه على صورة" مار ميخا النوهدري" والتي وصلته من المرحوم مار ابلحد صنا، وكذلك زودني بكتيب صغير يحكي بالشعر السرياني كارثة قرية " بيوس" عام 1738، حيث داهمها مرض مُعد، فحصد العشرات من سكانها، وأباد عوائلاً بأكملها، فيما لجأت عوائل اخرى الى القوش لتندمج فيها، ومنها: كولا، ملاخا، بقالا، كتو، سيبي.

عندما يسمع العم صادق باني انتقلت الى بيت جديد، وعلى الاكثر مع غيري ايضاً، يسرّه إهدائي لوحة جميلة، بخط ملون انيق بالسريانية، مصحوب بزخارف تراثية، ليبارك الرب بيتي، كم كنت ابتهج بها واقدر جهدها. ومثلي مثل الكاتب اللبناني أنيس فريحة في كتابه( قبل ان انسى ... اسمع يا رضا) كان يملي علي احداث عاشها، منها الصدام في سوق البلدة مع الشرطة اواسط الثلاثينات، وعن مغامرات مشاهير القوش في البطولة والشجاعة، فكنت اسرع بتدوينها بعد عودتي من اللقاء، والكثير منها اخذت طريقها الى منشوراتي وخصوصا كتابي( حكايات من بلدتي العريقة) الصادر في عام 2008 .

كنت ولا زلت ألتقي به تقريباً كل اسبوع في كنيسة مار بطرس لسماع القداس الكبير، واول دخولي الكنيسة امد رقبتي لألمحه في المقدمة، وما ان تبدأ مناولة القربان المقدس يكون المتناول الاول، ثم يليه الشماس عزيز الياس هيلو. كذلك اراه حاضراً في مناسبات الفرح والحزن بخاصة، فيشارك في الصلاة، ويلقي كلماته الطيبة في التخفيف عن مصاب اهالي المتوفين، فيبث فيهم الصبر الجميل. ان انسى فلن انسى كلمته القيمة في رحيل اختي صبيحة قبل عدة سنوات، في كنيسة مار بطرس، كانت تلك المبادرة مبعث ارتياحنا وتقديرنا، واكملها بذكر الفقيد المحامي عبد الرحيم قلو، الذي صادف رحيله في تلك الايام ايضاً. كما كان يشارك بالكلمات والاشعار في مناسبات الجالية وافراحها الخاصة بالمناسبات الوطنية والشعبية على مرّ السنين الماضية.

لم يتوقف عن زياراته الى ارض الوطن، كلما سنحت له الفرصة، فشرع بالزيارات منذ اوائل السبعينات، ولم ينقطع الا في فترة الحرب العراقية- الايرانية، وكانت آخرها قبل حوالي عام، وان شاء الله لن تكون الاخيرة، وفي احدى زياراتي عام 2012 التقيت به وذهبنا مع لويس جمّا والمرحوم سعيد سيبو، الى دار المشرق الثقافية في دهوك، وكان استقبالهم له بالمودة والترحاب البالغ، وبحضور الأديب السرياني اللامع بنيامين ميخا حداد.

وانا اصل الى خاتمة مقالي عن هذا الطود الذي لا زال شامخاً بيننا، معجب به وأيَّما اعجابٍ، بقدراته، بذاكرته التي لا زالت طرية، بخفة حركته، وتنقله من مكان الى اخر، كان يسوق السيارة الى حد قبل عدة سنوات ثم توقف، وعندما سألته عن السبب، قال " لا اريد ان اكون سببا في اصابة ناس ابرياء عن خطأ ارتكبه وانا في هذا العمر" . نادراً ما يبلغ القوشيٌ عمر المئة، ومن بلغوا هذا العلو الشاهق يعدون على اصابع اليد، عوامل وراثية تلعب دورها، وكذلك الصدفة، وبنية الشخص، والطريق الذي سلكه، والبرنامج الصحي- الغذائي- الرياضي الذي اتبعه. كلما يغيب عن ناظري اسأل عنه، فيأت الجواب انه يحضر مناسبات اقربائه في كندا، او مشيكان التي عاش فيها للفترة من 1967- 1987، وفي كل مرة يُحسن استقباله ويكرّم ليس من قبل الاقرباء والاصدقاء، بل من عموم الجالية المتنامية العدد، ويكون محط اهتمامهم واحترامهم، لصفاته النادرة من طيبة النفس، الكياسة، الذوق، الذكاء، الخلق الرفيع، التواضع الجم. كل امنياتنا ان يواصل شق طريقه لسنين اخرى قادمة، فهو شاهد بارز من شواهد عصرنا، وخصوصاً مدينتنا الحبيبة، الرابضة امام جبلها المهيب، حيث يعود تاريخها على اقل تقدير الى سبعة قرون قبل الميلاد.

nabeeldamman@hotmail.com

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 13-02-2018     عدد القراء :  4077       عدد التعليقات : 0