الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
نينوى في ذاكرة الراحل عبد دنو

كنت قد أجريت حواراً مسجلاً مع المرحوم عبد دنو قبل سنتين، على أمل إجراء حوار آخر أشمل، وأعددت نفسي لذلك لكن الظروف لم تسعفني في إنجازه، وسبقتُ ذلك الاعداد بمقامه فقلت فيها: ارحب بك ويسعدني ان اقابل انسان قارب التسعين من عمره، وهو يشحذ الهمم للسير معنا الى نهاية القرن، الذي إبتدأ به حياته وعاش ازمنة مختلفة وخرج منها قوي العزيمة، انك بحق مخضرم عاصرت عهود عديدة كالحكم العثماني- الاحتلال الانكليزي- الحكم الملكي- والحكم الجمهوري، وان بلوغ مشارف التسعين من العمر في هذا الزمان الصعب يدل على قوة الشخصية وسلامة الجسم، وأباء النفس.. فليسمح وقتك ويتسع صدرك لهذه الدردشة الابوية الصادقة.

للاسف لم يساعدني الحظ في اجراء المقابلة الثانية، وقد زرته قبل شهرين ومعي كل مستلزمات المقابلة ولاحظت ان وضعه الصحي لا يسمح بذلك فآثرت تأجيلها، وتلقيت نبأ وفاته الذي هزّني ففيه خسرت انساناً، أباً، وصديقاً تشرفت بمعرفته في الثلاث سنوات الأخيرة من عمره الطويل وهو يتمتع برجحان عقل، وصلابة بنية، وعمق ذاكرة فله الراحة الابدية.

والآن الى المقابلة التي أجريتها بتاريخ 11- آذار- 1992:

# طال عمرك ابا باسل، في اي عام كانت ولادتك واين؟ وكيف كانت ظروفكم في تلك الفترة؟

- يقول الكثيرون في سبيل المزاح بانني أصغّرُ في عمري، وكما تعلم ان تسجيل المواليد في تلك الفترة لم يكن يحفظ واني اذكر جيداً عهد السلطان عبد الحميد ومن بعده محمد رشاد وكذلك سنة الثلج الكبير. وعلى هذه الشاكلة يبدو اني من مواليد 1905 في القوش. كانت حياتنا في تلك الفترة بسيطة جداً وفيها العوز والحرمان فتركت مسقط رأسي مع الاسرة وعمري خمس سنوات الى مدينة نينوى.

# كيف كانت نينوى آنذاك؟

- اول ما يلفت انتباهك في تلك الفترة ان المدينة لا تنعم بالكهرباء، وتضاء بالفوانيس وكان اول شخص ادخل عليها الكهرباء هو محمد الصابونجي حيث جلب مولدة كهربائية بعد دخول الانكليز. وكانت اللغة السائدة في الكتب والصحف والمراسلات هي التركية وقليل منها بالعربية، وهناك مدرسة تدرس باللغة الآرامية ولها منزلة تحظى بالاحترام. وكان اولاد أشراف الموصل يتلقون علومهم فيها امثال اولاد كشمولة، الصابونجي، سالم الخيون( الذي نفاه الانكليز) والدكتور محفوظ بك.

# عشت فترة طويلة مع والديك في مقر بطريركية بابل للكلدان في نينوى وفي معية البطريرك مار عمانوئيل تومكا*.. فما هي الذكريات التي تعلقت بذهنك عن تلك الفترة؟

- حظي البطريرك عمانوئيل بمقابلة السلطانين عبد الحميد ومحمد رشاد في اسطنبول، ومنح وسام عثماني من الدرجة الأولى وهو عبارة عن قطعة ابعادها 4 في 4 إنج توضع فوق النطاق، وهي مرصعة بأثمن الأحجار والمعادن بالإضافة الى امتياز سلطوي خاص وبراءة سلطانية.

عند تتويج الملك فيصل في بغداد كان من اوائل من بايعوه في خطابه ببغداد عام 1921، وعند تشكيل الحكومة العراقية برئاسة النقيب لم يتجرأ كبار شخصيات الموصل على تأييدها، اما البطريرك فقد أيدها ووقع لها، حينئذ غضب الانكليز وقرروا نفيه، فجاءت( مس بل) لتقابله لمدة ثلاثة ارباع الساعة وبعد يومين وصلت مقر البطريركية سيارتين نوع موريس محملتين بحراس هنود سيخ ليأخذوا مار عمانوئيل. كان للبطريرك مجموعة تقوم بخدمته جلبها معه من سعرد( تركيا) عندما كان مطراناً لأبرشيتها عام 1895، ولم يوافق الانكليز ان يصحب معه سوى شخص اسمه يعقوب وعند مغادرته احتشد الناس مسلمين ومسيحيين عند ماكنة بيت الحطّاب بين باب سنجار وباب البيض لتوديعه وهم يذرفون الدموع السخية، ومكث في المنفى ثلاث سنوات في أخس المستعمرات الانكليزية, وعند عودته من المنفى خرجت الموصل عن بكرة ابيها بالسيوف والبنادق والخيول والهوسات وفي مقدمتهم اشراف الموصل من آغوات باب البيض وغيرهم لتحيته، والقى السيد خير الدين العمري خطاباً بالمناسبة وقال فيه: ان اجداد عمانوئيل قد نزحوا من حكاري ( تركيا) قبل بضعة مئات من السنين الى العراق، ثم توجه ليصلي في كنيسة مسكينتا. وقد حظي باحترام الحكومة فعينته في مجلس الأعيان عام 1925 وحتى وفاته عام 1947.

# كذلك عشت سنين الحرب العالمية الاولى وسنة السفر برلك فماذا تتذكر منها؟

- كانت سنوات قاسية وفيها يتجول القانون جاويش( انضباطية) لسوق الناس الى العسكرة ( الجندية) والبحث عن الهاربين. شاهدت بأم عيني اعتقال اثنين من الاخوة يعملان في الحياكة داخل البيت عند كنيسة مسكينتا، وكان العسكر يجمع الشباب في الجانب الثاني من نهر دجلة لسوقهم في الصباح الباكر الى تركيا وياتي اقربائهم في الليل للتعرف عليهم وفي حلكة الظلام يشعلون الشخاط( الكبريت) ليستدلوا على اولادهم، وقد شاعت تسمية ذلك التجمع بالطابور ابو الشخاطة. لقد حدث ارتفاع هائل بالاسعار  حيث بلغت وزنة الحنطة ثلاث ليرات ذهبية، فجاعت الناس، وأخذت تبحث عن القطط والكلاب السائبة، وباع الكثيرون اولادهم فيما عكفت أسرة على خطف الاطفال من الشوارع لكي تذبحهم وتدبر طعامها. واكتشف في سرداب بيتهم العشرات من رؤوس وأيدي وأطراف الأطفال، وقد اخذ الرجل وإمرأته بعد افتضاح أمرهم الى الإعدام في إحدى ساحات الموصل.

# ماذا عن نهر دجلة والصوبين في تلك الفترة؟

- لم تكن هناك بيوت على الجانب الأيسر أبداً شرق دجلة فيما يعرف اليوم بالفيصلية، وكان في الموصل كازينو واحد على الشط اسمها قهوة الدوغج وتحتها يقع الكمرك الذي هو مركز تجميع الحاصلات التي تأتي من الشمال فوق ظهور الحيوانات. اما الجسور فكان يوجد جسر خشبي واحد أسفل البلدية ويربط بسلاسل من الجانبين وهو عبارة عن طوافات( ركواثه) وعندما يحصل الفيضان يدفع معه الجسر الى الأسفل ويسحب بعد انحسار المياه، وفي احدى السنوات ومن جراء فيضان كبير هرب الجسر! اي انقطعت سلاسله وأرجعه الناس بمشقة الى محله. اما الجسر الحديدي فقد أنشأه الانكليز في الثلاثينات.

# وماذا عن النقل البحري؟

- كان النقل عبر دجلة بالكلك المصنوع من الجلود المنفوخة بالهواء( زق) وفوقها تربط جذوع الاشجار مستقيمة( سبيندار) ويكون جاهزاً للإبحار من الموصل الى بغداد في اتجاه واحد مع التيار، وفي بغداد يباع الخشب ويفرغ الهواء من الجلود وتحمل ثم تعود العبارة الى الموصل على الأقدام وتستغرق رحلتهم حوالي الشهر، اما البضائع فتحمل على الطراريح( جمع طرّاحة) او ما يشبه بلَم كبير كانت تحمل وتتجه نحو بغداد ويتم ارجاعها بواسطة حبال متينة وستة رجال أقوياء وتكون حركتها في الشتاء فقط نظراً لارتفاع منسوب المياه.

# كيف دخل الانكليز مدينة الموصل؟

- عندما وصل الانكليز الى الشرقاط بالحصن والعربات وقليل من السيارات، خرج الاتراك والانضباط الالمان عند مغيب الشمس من دار الضباط الكائنة قرب دار الراهبات وخلف مقر البطريركية، وشاهدنا سرعة امتطائهم الخيول من دار الضباط وخروجهم السريع بإتجاه نصيبين، وبقيت الموصل بدون حكومة لمدة ثمانية وأربعين ساعة، وبعدها وصل الانكليز، وبعد فترة كنت في مدرسة اهلية خلف السيمنير وسمعت مع باقي التلاميذ صوت قوي في الجو وقلنا ما هذا الطائر الغريب؟ وتبين فيما بعد انها الطائرة التي حلقت لاول مرة فوق سماء الموصل.

# والآن حدثنا عن الحركة الآشورية عام 1933؟

- كان المتسرح من جيش الليفي يمنح راتب إضافي وبندقية، وبذا تجمعت عند الآشوريين بضعة مئات من البنادق، ونتيجة للظروف القائمة آنذاك تحركوا لنيل حقوقهم في نينوى، وقد توجه من نجي منهم الى القوش حيث احتضنت منهم اكثر من ألف فرد، وطُلب من القوش تسليمهم فرفضوا. طوقت القوش بالمدفعية والعشائر المجاورة، وكان الأكثر تحمساً فيهم عشائر شمّر، وفي تلك الأجواء المنذرة بالخطر توجه يوسف سرسروك بسيارة موديل 1932 مجازفاً بحياته الى الموصل فمقر البطريركية وركع على ركبتيه امام مار عمانوئيل قائلاً: ان مدينتك في خطر جم، فتحرك البطريرك فوراً وأجرى اتصالاته ومنها مع الملك غازي لكون الملك فيصل كان في سويسرا في تلك الفترة. قال مار عمانوئيل لغازي في الإتصال التلفوني وبالحرف الواحد: اني انا الذي ساعد والدك في تربعه عرش العراق فكيف تعرض مدينتي الى الفناء؟ وفي الصباح كان الملك غازي وتحسين قدري وغيرهم في الموصل، وقد رافقهم المطران اسطيفان كجو الى دير السيدة وبمرافقة المتصرف ومدير الشرطة. في ذلك اليوم كان عجيل الياور مع رجاله في سهل القوش بإنتظار الأوامر للإنقضاض على القوش.. وفي الأخير حضر رئيسها الحكيم يوسف بولا اسمرو مخاطباً شيخ شمّر لماذا جئت الى القوش وماذا تنوي، والتفت الى الملك غازي قائلاً: نحن نتعاون مع الحكومة ونخضع لها، اما هؤلاء( مشيراً الى الياور) فقد قدموا للقتل والنهب.

وأعطى الملك غازي اوامره بان بقاء اي شمّري في دشت القوش لأكثر من ساعة فالحكومة ليست مسؤولة عن سلامته، وبذا هربوا جميعاً قبل ان يلتفتوا ورائهم في تلكيف!

كان مدير الناحية آنذاك بهجت عبد الأحد قليان حين وقع على مسؤوليته امام غازي بان القوش خالية من الآشوريين( وفي الحقيقة كان لا يزال العديد منهم فيها) اما البقية وبعد رفع الفرمان توجهوا الى فيشخابور ومنها الى سوريا الانتداب الفرنسي وكان معهم احد الألقوشيين وإسمه جميل.

كانت القوش ستفنى في ذلك الهجوم وكانت ستقاوم بشدة بسبب توفر الكثير من الأسلحة وأكثر من اي وقت مضى.

# شكراً جزيلاً على تحملك هذه الدردشة المتعبة، متمنياً لك الصحة والعمر المديد.

( القيثارة صفحة الحوار العدد 10 السنة التاسعة 1994)

nabeeldamman@ hotmail.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* وصف البطريرك مار يوسف عمانوئيل توما الثاني في كتاب( بلاد الرافدين) تأليف الكاتبة الانكليزية الشهيرة ليدي دراور الصادر عام 1923 ترجمه الى العربية فؤاد جميل عام 1961

..... وقريب من هذه الكنيسة مسكن غبطة بطريرك بابل على الكلدان. والبطريرك هذا محترم جذّاب، وهو يشغل منصبه منذ سنوات عدة، ويحبه اتباعه حبّاً جمّاّ... انه مهيب المنظر يرتدي طيلساناً عجيباً فيه اللونان: القرمزي والأحمر الداكن، ويضع على رأسه طاقية مقرمزة وهو يمتلك صليباً ضخماً ويرسل لحيته البيضاء. وبيته لطيف وفيه فناء بارد، وأرضه مفروشة بالرخام الرمادي. واحتسينا القهوة في بيته لدى زيارتنا له اول مرة، وتفضل فأرانا شقق البيت في طابقه الأعلى، وخزانة كتبه، وغرفة استقبال الضيوف وفيها كرسي هو أشبه ما يكون بعرش صغير . وتزين جدران الغرفة صور البطاركة السابقين وفي وسطها صورة كبيرة للبطريرك الحالي نفسه. والمنسينور توما مولود في( القوش) حيث ولد النبي ناحوم. ولقد سافر الى اورپة مرات عدة وزار فيها كلّاً من المسيو بوانكاره والمستر لويد جورج. ويكلف الرجل بالتحدث عن رحلاته وعمّن اصبح في عداد اصدقائه خلالها. واطلعنا على سجادة حاكتها بنات الموصل وقدمنها له في مناسبة يوبيله.

  كتب بتأريخ :  السبت 23-06-2018     عدد القراء :  4026       عدد التعليقات : 0