في المقال المنشور في ال 30 من حزيران الماضي تحت عنوان " اليسار بين النقد والجلد الذاتي .. " حشع " نموذجاً " تطرقنا إلى ظاهرة تحامل المناضل الشيوعي على حزبه الذي هجره من خلال كتابات نقدية بالغة القسوة والتجريح هي أشبه بالجلد الذاتي للفكر والماضي الحزبي الذي كان هو جزءاً منه ؛ وقلنا ما هو مضمونه إن كل قوى ورموز اليسار ، من أحزاب وحركات وشخصيات مستقلة ، ينبغي عليه اليوم في هذه المرحلة الراهنة البالغة الصعوبة منذ تعاظم انحسارها بانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في مطلع العقد الأخير من القرن الآفل أن تسهم في لملمة صفوفها كلاً حسب الدور والمجال الذي يضطلع بهما لا أن يكون أي منها اداة أو معوّل هدم في تجزئة المجزأ. ومن نافلة القول هذا لا يصادر حق المثقف أو الكاتب في النقد الصريح الموضوعي لأخطاء حزبه .
ولعلنا نجد في سيرة المناضل والشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الذي مرت ذكرى رحيله العاشرة مؤخراً واحدة من أفضل سير المناضلين والمبدعين في إسلوب تعاطيهم وعلاقاتهم مع أحزابهم السابقة وبناء علاقلات معها قائم على الاحترام والمحبة المتبادلين ، بصرف النظر هنا عن الظروف والإشكاليات التي حملت هذا المناضل أو ذاك لترك حزبه . وفي حالة درويش كما نعلم فإن تأثير الظروف الموضوعية التي حملته على ترك حزبه كانت اكثر من كونها اسباب سياسية ذاتية .
وإذا صح القول أن قلة من الشعراء العرب ، وبخاصة المبدعون الكبار منهم ، من لم ينشقوا على أحزابهم أو لم يغادروها إما لأسباب سياسية وإما في الغالب الأعم على خلفية تعقيدات العلاقة بين فضاء الإبداع الذي يرنو إليه الشاعر طليقاً بلا قيود وبين كيفية قراءة قيادته الحزبية في كل عمل جديد من أعماله الإبداعية والذي غالباً ماتنظر إليه من منظورها السياسي الحزبي الضيّق ، ولا تتورع في كثير من الأحيان من أن تتدخل بنقده واستهجانه ؛ فإنه بالنظر إلى التعقيدات الجمة التي شهدتها وتشهدها القضية الفلسطينية على أكثر من صعيد في المراحل والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها منذ نكبة 48 ثمة ألف سبب وسبب يدفع المناضل السياسي الحزبي للاختلاف مع فصيله أو حزبه الفلسطيني ، فما بالنا إذا ما كان هذا المناضل شاعراً بحجم الراحل محمود درويش ، ومع ذلك فقد تمكن من أن ينسج نموذجاً فذاً أحسبه خلّاقاً في طريقة تعاطيه مع حزبه الشيوعي " راكاح " الذي هجره مع هجرته موطنه فلسطين ( أراضي عرب 48 ) داخل الكيان الصهيوني إلى المنفى عام 1970 حيث حط رحاله في بيروت 1971 ، ثم تنقل منها إلى أكثر من مدينة وصولاً إلى إقامته الأخيرة في رام الله عاصمة السلطة الفلسطينية بعد اتفاقيات اوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل 1993 ، فوفاته في 2007 .
وحينما غادر الروائي والمناضل الفلسطيني الكبير إميل حبيبي دُنيانا 1996 وهو ذاته أحد قياديي الحزب رثاه درويش في مدينة الناصرة بما يليق قامته النضالية والإبداعية وبأروع ما تكون كلمات التأبين تأثيراً بلاغياً : " وكُنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة ، أحد المنابر المتحركة الأقوى والأعلى ، الداعية إلى سلام الشعوب . السلام القائم على العدل والمساواة ونفي احتكار الله والأرض ، للوصول إلى المصالحة التاريخية بين الشعبين ، مع قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس " . وأضاف وقد اعتاد مناداته ب " المُعلم " : " فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا يُعبّر عن دينه لك ، للطريقة التي حللت بها جدلية التوتر الوجودي والثقافي بين الجنسية والهوية ، بطريقة وحيدة هي البقاء والدفاع عن حقهم في المساواة " .. واسطرد : " فطوبى لك أيها المُعلّم الذي جعل الحنين فاكهةً ، كم أنت ياحبيبي ، كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاه . لكل واحد منا واحد منك ونحن جميعاً فيك " . وكان دفاع الحزب الشيوعي عن حق عرب 48 ، الذين عُرفوا بتشبثهم بتراب وطنهم وفشلت العصابات الاسرائيلية ، في حمل الجنسية الأسرائيلية من الإشكاليات البالغة التعقيد التي ظلت تستعصي على فهم واستيعاب ليس فلسطينيي الشتات فحسب بل والعرب عامةً ، إلى درجة بلغت تخوينهم لقبولهم لحملهم إياها ، وإن خفت هذا الإشكالية إلى حد كبير بعد أن خف غلواء التطرف الثوري الفلسطيني . وهكذا فكما كانت مغادرته لوطنه الواقع تحت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني طواعية قسرية فإن خروجه من حزبه أملتها ظروف المنفى والمواقع النضالية والابداعية الجديدة الارحب نسبياً من القفص الذي وجد نفسه فيه حبيساً داخل وطنه المحتل ، فكانت أن تفجرت ينابيع طاقاته وملكاته الإبداعية على نحو اكثر تألقاً وجمالاً على امتداد الأفق العربي والعالم بأسره . وألهمت قصائده الايقاعية المُغناة عدداً من أهم فناني الاغنية السياسة والوطنية في عالمنا العربي ، وفي مُقدمتهم الفنان اللبناني ذو الشعبية العربية الكبيرة مارسيل خليفة الذي خص درويش بمعظم أغانيه والتي كانت تُلهم ليس المقاومتين الفلسطيينية واللبنانية فحسب ؛ بل وكل حركات المعارضة الوطنية والديمقراطية العربية قاطبةً والجماهير عامة ، وخاصة تلك الاغانيات التي تُعبر عن الهوية ( جواز السفر ) والبطولات الثورية والصمود والتي وجدت فيها تلك الجماهير العربية ليس تعبيراً عن حال ونضال الشعب الفلسطيني فقط ، بل ومرآة عن حالها في نضالها الصعب الطويل والمرير ضد الدكتاتوريات وتوقها الشديد إلى الحرية والعدالة والديمقراطية . وحينما أسس مجلة " الكرمل " ورأس تحريرها فتح صفحاتها للكتّاب اليساريين والديمقراطيين وفي عدادهم كتّاب شيوعيون . وقد تمكن درويش بصورة مُثيرة للإعجاب في أن يجعل من نفسه معبّراً عن القواسم المشتركة التي تجمع الرموز والتيارات الوطنية الفلسطينية مجتمعةً ، وبفضل ذلك نال احترام وتقدير الجميع له ؛ فهو القائل : يشرفني أن أكون جسراً بين حزبي السابق وكل فصائل المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية العربية ؛ وكان حقاً يتشرف ، بذلك بدون أدنى شرنقة حزبية تقتصر على شهداء تياره الشيوعي ، برثاء رموز يسارية ووطنية سواء الراحلة قضاءً وقدراً أم استشهاداً ، وكان أولهم صديقه المناضل والمُبدع الراحل الروائي غسان كنفاني رئيس تحرير مُجلة الهدف وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية والذي اُستشهد بطريقة إجرامية بشعة نفذها الموساد في يوليو 1972 ، فخصه بمقالة رثائية جميلة تحت عنوان " محاولة رثاء " .
والحال فإن الشاعر الفلسطيني العربي الكوني درويش ترك برحيله فراغاً كبيراً لا يُعوّض إن على ساحة الإبداع الفلسطيني والعربي وإن على ساحة الإبداع العالمي ، ولاتزال تجربته الإبداعية والنضالية حية جديرة بالإستلهام من قِبل المُبدعين والمثقفين والمناضلين الفلسطينيين والعرب باعتبارها سيرة وضاءة نسجها في ملحمة مزج فيها عبقريته الإبداعية الشعرية بعبقرية نضاله الواقعي منذ شبابه اليافع تحت خيمة حزبه الشيوعي حتى رحيله الفاجع في اواسط ستينيات عمره وقد كان أكثر نضجاً في تجربة المنفى بجناحيها الإبداعي والنضالي .
التالي