الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أفكار في زمن الكورونا

   اذا صح ما قيل بان فيروس كورونا قد انتقل من الحيوان الى الانسان، بعد ان تجاوز منظومة دفاعه ليكيف نفسه ويلحق أضراراً جسيمة، بحق من انتقل اليهم خصوصاً كبار السن واصحاب الامراض المزمنة وضعيفي المناعة. فان الاجراس المنذرة للخطر الماثل، التي كان علماء البيئة يحذرون منها لعقود من السنين، لم تلق آذاناً صاغية فاستمر الإضرار في الطبيعة، ودافعُ الإنسان في ذلك هو الجشع، الإستحواذ، المنافسة المحمومة، والانانية الضيقة. توسعت المدن الصناعية الملوثة بعوادم المعامل والمصانع والمركبات، على حساب الأرياف حيث نقاء الهواء وعذوبة المياه والوان الطبيعة التي تفرشها الزهور، لقد ثبت في الايام الماضية بعد انخفاض وتيرة سير المركبات في مدن كبيرة مثل نيويورك، على تناقص ملحوظ في نسبة ثاني اوكيد الكاربون في الجو.

   من الهام في هذا الزمن تذكر قاعدة "لكل فعل رد فعل...." فما اقترفناه بحق الطبيعة الأم الحنون من اضرار منها على سبيل المثال المستخرجات من عمق الارض لتصبح رفيقة حياتنا من نفط ومشتقاته ومن البلاستيكيات والمعادن خصوصا المشعة (التجارب النووية) وما دخلت في الصناعات الكيميائية والاسلحة التي تطورت جيل بعد جيل، لتتمخض عنها حروب ومجاعات ومعاناة لملايين البشر، اضافة لما اثر على المزروعات والاشجار في الغذاء الذي نتناوله والهواء الذي نستنشقه، فازدادت وتيرة الامراض الخطيرة ومنها السرطانيات، وحتى زحف الكورونا في اواخر العام الماضي، منطلقا من الصين البلد الاكثر سكاناً في العالم.

   في الماضي كانت الاوبئة تجتاح بين فترة واخرى منها الطاعون والملاريا والكوليرا وغيرها، وعند انتهائها تكون قد حصدت اعداداً غفيرة، وتبقى محصورة في بعض المناطق دون اخرى حيت يصعب انذاك انتقالها عبر حواجز الجبال او الصحارى او البحار، اما اليوم فقد انتقل وباء الكورونا بسهولة وسرعة فائقة بواسطة الطائرات والسفن والعجلات السريعة. يحدثنا التاريخ بان الانسان كان يقف عاجزاً امام تلك الاوبئة فيستسلم لها بعد ان يصبح اسيراً للتعاويذ والتفاسير والاساطير، ولا ننسى بان مواقف جريئة ومؤثرة لا زالت تذكر منها:

   عندما اجتاح وباء قاتل بلدة القوش اواسط القرن التاسع عشر، عزل المصابون به في وادٍ قريب اسمه "خووشا" حتى يحافظوا على من تبقى من السكان، هنا اصر احد الكهنة الشباب واسمه يونان الذي كان يعمل نجاراً في السوق، ان يذهب الى وادي خووشا ويناول المصابين القربان المقدس، منعه حكماء البلدة ان يجازف وهو صاحب عائلة واطفال، لكنه اصر قائلا: ما زلت رجل دين فعلي اكمال واجبي بمناولتهم مسحة المرضى، ذهب الى الوادي، ناولهم القربان، فاصيب بالمرض وتوفي بعد عدة ايام تاركا اطفاله الصغار دون معين وهم: شمّو، بجي، متي، ججي، وسليمان. ربما في منظار هذا الزمن تعد هذه الحادثة ضرباً من السذاجة، ولكن في زمانها كانت قمة التضحية، فقامت من صلبه اجيال رشيقة القوام حسنة المنظر من عشيرة القس يونان المعروفة.

   المواقف الانسانية والشجاعة الفردية والجماعية ما زالت تتواصل بين البشر، في زمن الكوارث الكبرى التي تفرضها الطبيعة، مثل الاوبئة والزلازل والحرائق والفيضانات والبراكين والاعاصير وغيرها، تبقى بارزة تلك المواقف النزيهة وتقديم الخدمات للمحتاجين، آلمنى قراءة هذا العنوان اليوم : الجيش الاسباني يعثر على نزلاء دور لرعاية المسنين "موتى في اسرتهم". ابدا تبقى المواقف الجريئة للبعض موضع تقدير العالم، فلنتعظ ونتصرف في زمن الكورونا في تطبيق التوجيهات التي تصدرها منظمة الصحة العالمية، ومساعدة بعضنا البعض متجاوزين عقدة الأنا، والافراط في حب الذات، التي تحول دون اداء رسالتنا.

   على الحكومات البحث عن حلول للاقتصاد العالمي المشلول، ووضع ملايين البشر في بيوتها محجورة طوعاً او اجباراً. عليها ان تشق طريقاً يستوعب ديمومة الحياة ومحاربة الوباء، واضعين في الحسبان بان مرحلة ما بعد كورونا ستكون في مراحلها الاولى على الأقل، اصعب وأشد ايلاماً، فيما اذا العالم استمر بطرقه القديمة التي ورد ذكرها طياً في المقال.

   سيكون بإمكان البشر تجاوز هذه المحنة بعد دفع فاتورة كبيرة لا يستهان بها، من الخسائر البشرية والاقتصادية لتكون انذاراً قوياً للانسان وخصوصا الحكومات، ليعيدوا حساباتهم واعادة تشكيل منظوماتهم ليخرج عالم جديد اكثر عاطفة وافضل عيشاً في بيئة انقى هواء وأمثل غذاء لا تشوهها دوافع الجشع والكسب المادي الذي لا ينفع امام الازمات الكبرى، يكاد اليوم يتساوى الغني والفقير، المسؤول والبسيط، الحاكم والمحكوم امام محنة الكورونا، من كان يتصور ان الوضع الصحي في الصومال افضل من الوضع الصحي في ايطاليا؟.

   خلاصة الافكار استشهد بقول حفظته طويلا ولم اتذكر مصدره "لولا الامال لكانت الحياة حلما لا يطاق وجوفا لا يستتر" هكذا نبني آمالنا على معافاة الوضع عالميا وعودة الأعمال ودولاب الاقتصاد الى سابق عهده، بعقل جديد وفهم سديد وإضافة نوعية لما افرزه كورونا وباء القرن 21.

   نجانا الله من شر كورونا، ليتوقف زحفه وامتداده، لتسعد البشرية وتتنفس الصعداء مرة اخرى، فتزيح طبقة الأوهام والغيبيات المتراكمة عبر القرون، الى حيث العلم والحياة والواقعية، مرة اخرى نتمنى عودة الحياة الطبيعية فوق كوكبنا المصطفى من بين الكواكب الاخرى، ليتمتع الجيل الناشئ بمباهج الحياة، وزرقة السماء، وجمال الليل المرصع بالنجوم، وانسياب المياه في الشلالات والانهر والبحيرات، لتعط ما لا نهاية من الأنغام.

24 اذار 2020

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 25-03-2020     عدد القراء :  2379       عدد التعليقات : 0