كانت ولادة جوزيف توما ككا في 10 شباط 1951، اي بلغ من العمر عند الوفاة يوم 10 حزيران 2020 ما يقارب السبعين عاماً، قضاها راكبا الأخطار مع والده توما توماس، المعروف على نطاق واسع. كان على سر ابيه، وبمثابة ظله في كل الأهوال التي تعرض لها في مطاوي القرن العشرين، والذي سطر فيه امجاده. جوزيف عاش في كركوك والقوش، ساعد الوالد في معمل الثلج العائد له في قرية الشرفية، وداوم في المدرسة بشكل متقطع نظرا لظروف العائلة وتهجيرها المتكرر، واخرها في المتوسطة حيث تركها في النهاية بسبب المضايقات التي كان يتعرض لها، ومنها الحادث التالي:
حرض البعض من ضعاف النفوس، مدرس الرياضيات واسمه ياسين محمد مصطفى من قضاء سنجار، فاستدعى جوزيف الى غرفة المدرسين واغلق الباب وراءه، وصار يكيل الشتائم له ولوالده، تعالى الصياح مما حدى بالمدير جرجيس حميكا لطرق الباب بشدة، وما ان فتح الباب حتى خرج الطالب الى الساحة ومنها الى البيت. شرع المدير بتوجيه كلمات صارمة للمدرس، موبخا اياه بشدة على حجز الطالب هكذا، وان ذلك مخالف للنظم المدرسية. في اليوم الثاني لم يأت جوزيف الى المدرسة، فارسلت اسرته سالم اسطيفانا ليتفاهم مع الادارة. فما كان من المدرس ياسين، الا ان يوجه الكلمات النابية الى سالم ثم هجم عليه، فدافع ابو ازاد عن نفسه وكال له ضربات استحقها، وخرج من الادارة ثم المدرسة. استاذ ياسين ومعه بعض المدرسين، ذهبوا يشتكون الى مركز الشرطة، وفي المساء طوق بيته مجموعة من رجال توما توماس، فاشبعوه ضرباً قويا، بسبب اعتدائه غير المبرر على جوزيف، وطعنه اسم الوالد الثائر، بكلمات ساقطة لا يلفظها مربّي الاجيال، بل ابن الشوارع. في اليوم التالي غادر ياسين القوش الى الموصل، ولم يعد اليها ابدا.
توما توماس وولده جوزيف في الستينات
في اواسط السبعينات أُرسل مع رفيقه كامل بوداغ الى هنغاريا في دورة فنية لعدة اشهر، كان العمال الهنغار ينادونهم تحببا باسماء" يوشكا و كالَمان" ، وعند عودته لم يتعين في مكان او يحصل على عمل بسبب محاربة السلطة له، فاضطر الى فتح دكان متواضع في سوق البلدة، لبيع الحاجات النسائية والبيتية البسيطة.
في معارك ايلول 1973 في القوش، كان اولاد توما توماس يخوضون القتال الى جانب الشباب، وقد صدق من اطلق عليهم جملة" فرخ البط عوام" وفي نهاية عام 1978 إلتحق الوالد في الجبال ومعه مجموعة من المناضلين، ومنهم ابنه جوزيف، ليبقى حتى نهاية حركة الانصار، وهو يتنقل من مكان الى اخر، متعرضا لاصعب الظروف، ولم تتركه الخطوب والنوائب ان ينجو منها، بل وفي عام 1987 انفجر به لغم ازال قدمه الايسر فاصبح معوقا، ومع ذلك لم يترك ساحة الكفاح المسلح، بل بقي يقاوم حتى خروجه بعد الانفال، الى سوريا.
عند وصولنا الى وادي كوماته على الحدود التركية، اكتشفنا بان احدى حقائب لعب اطفالنا وملابسهم قد فقدت، فقرر ان يرجع معي في الطريق لحوالي اربع ساعات ذهابا ومثلها ايابا سيرا على الاقدام، دون ان نعثر عليها، فكلَف النصير ابو يعقوب( دنخا البازي) بعض المهربين، ان يشتروا من تركيا بعض ما افتقدناه. عندما تقرر تسليحي، كان جوزيف من صنع لي حمالة الذخيرة التي ظليت اتباهى بها، علما بانه قد عمل الشيء نفسه لعدد من الانصار، حيث في جعبته كل مستلزمات ذلك في وادينا المنعزل عن العالم. في احد الايام رأيته جذلا بشكل ملفت، فقلت ما الخبر، قال واخيرا: نشر اعلام القاطع موضوعي، في رثاء صديقي الشهيد هرمز بوكا.
في عمق الشتاء القارص في اعالي الجبال، مرضت ابنتي ريلا فاخذناها الى طبيب القاطع ابو صلاح، فاوصى بزرقها ابر اظن كل اربع ساعات، وكان جوزيف قد تخرج من دورة تمريض، فتطوع ان يؤدي المهمة، كان ياتي بانتظام، ووسط ثلوج هائلة، فيقوم بقطع الطريق من مقر قيادة بهدينان الى غرفتنا الطينية بجوار حركة" كوك" ، ولعدة ايام وليال حتى تماثلت للشفاء، ما زلنا انا وامها دائما نتذكر جوزيف الذي انقذ حياتها.
ريلا دمان في حضن والدها بين الانصار
في اميركا االتقينا عام 1998 وصرنا كما في الماضي قريبين الى بعض عائلياً، وعندما انتقلت الى كاليفورنيا قبل 15 سنة ظلت اتصالاتنا متواصلة، وكان اخر اتصالي به عندما اخبرني عن ورم في اذنه، وليلة وفاته اتصل باختي اناهيد ليبارك لهم مناسبتهم، وقبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة، طلب من زوجته المخلصة وديعة ان تتصل باخي فريد، هكذا كنا وسنكون مع اولاده وباقي اجزاء العائلة المنتشرة في اكثر من بقعة من هذه المعمورة.
جوزيف واختي اناهيد دمان
ترك رحيله فينا الحزن والأسى، وتأسفت بشدة عندما تلقيت مكالمات اولاده، لقد سلّم الامانة المتمثلة بالرجال المقبلين، ميلاد، رامي، وتامي( توما) الى زوجته الرائعة الاصيلة وديعة صبري، لتمضي معهم حتى تتحقق آمالهم. اطلبوا الرحمة لهذا البطل الانصاري، الذي حمل السلاح لاكثر من عقد من السنين بوجه الدكتاتورية، المجد والخلود للشهداء، وفي المقدمة اخيه منير الذي غيبته الاجهزة القمعية، ولم يعثر على رفاته حتى اليوم، الرحمة لوالديه توما والماص، والتعازي موصولة الى اخوته واخواته وكل اهله وعوائلهم والى رفاقه الانصار من مختلف شرائح الشعب العراقي، لتبقى ذكراه عطرة الى الابد.
nabeeldamman@hotmail.com