الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
آيا صوفيا الجميلة لن تقتلعها رياح التطرف

كلما طاف بي الهيام بعيداً، نحو وطني بين النهرين الخالدين دجلة والفرات، وفي طريقي فوق البحار والمحيطات، احط الرحال احياناً في مدينة اسطنبول التاريخية، وازور معالمها ومنها كنيسة آيا صوفيا، التي أسرتني في ابهتها، وطراز بنيانها، وثباتها قرابة الف وخمسمائة سنة، رغم التشوهات التي لحقت بها في القرون الخمسة الماضية، فانها حافظت على قيمتها الدينية والتراثية، وباعتبارها في موقع جغرافي، يفصل اوربا عن الشرق الاوسط، مسرى المسيح عليه السلام.

اليوم التاريخ يعيد نفسه، وكما قال احد الفلاسفة" في المرة الاولى مأساة وفي الثانية ملهاة" ، فعند سقوط القسطنطينية امام احفاد المغول والتتار في عام 1453م، على يد السلطان الفاتح محمد بن مراد، تحولت الى مسجد، كما تحولت غالبية كنائس الشرق الاوسط الى المساجد، بعد الفتوحات الاسلامية المنطلقة من الجزيرة العربية. انهارت دولة الرجل المريض، امام تصاعد النقمة والغضب عليها من كل حدب وصوب، جراء سياساتها الاجرامية تجاه الشعوب، وتحويلها بالقوة الى الاسلام، يتسائل المرء: ماذا جنى الارمن وغيرهم، ليقتلوا في ابشع مجزرة في التاريخ الحديث؟ . عند سقوط الدولة العثمانية المدوي، وبعد فترة فاصلة من الفوضى، مسك زمام الامور المتنور كمال اتاتورك، زعيمها في العصر الحديث، فوجه انظاره نحو عالم الحرية والتمدن، ومن ضمن انجازاته التاريخية عام 1934، كان تحويل ايا صوفيا الى متحف.

اعتبرتها منظمة يونسكو الدولية من المعالم الحضارية، فاستعادت الكنيسة بعض هيبتها، وصارت قبلة للزوار بخاصة الاوربيين، وبدأت تدر اموالا طائلة من تلك السياحة، الى الدولة التركية التي كان اقتصادها ضعيفا. الى ان هبت الرياح الاسلامية المتطرفة، على عموم الشرق الاوسط، فانعشت الحنين الى الماضي، وارجاع الامبراطورية التي استعبدت الشعوب، فزحفت على عجل الاحزاب الدينية الاسلامية، لتقبض زمام الامور، وكان نجمها الاكثر تطرفا هو رجب طيب اردوغان.

عندما عجزت تركيا في الدخول الى الاتحاد الاوربي، نظرا لسجلها الاسود وقمعها بل ابادتها، لكثير من الملل والنحل على اراضيها، وقهرها وتجاهلها لحقوق الانسان بشكل عام. عندما راى اردوغان كل ذلك، واعقبه توجه دول اسيا الوسطى، التي انفصلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989، للتعامل تجاريا واقتصاديا، والاكثر من ذلك سياحيا مع تركيا، تحسن وضعها الاقتصادي كثيراً، قياسا في تعاملها مع اوربا جارتها الشمالية.

ان ما حدث اليوم في ارجاع متحف ايا صوفيا الى مسجد، لم يأت من فراغ، وليس قرارا عفويا او طائشا، بل مدروسا بعناية، فسوف يدر اموالا جديدة، واكثر من قَبل في السياحة الدينية، من البلدان الاسلامية في المنطقة، والتي تغلي في صراعاتها ومشاكلها، وقد نقلت برغبة منها او بدون ذلك، هذه اللوحة الماساوية الى اوربا الحديثة، عن طريق هجرة الملايين اليها، فاثقلتها وعرقلت بالفعل اي اجراءات او امكانيات لمقاومة الامر الواقع. لن تفيد بيانات اليونسكو، ولا الامم المتحدة، ولا الاتحاود الاوربي، ولا مجالس الكنائس المختلفة، ومنها الكنيسة الارثذوكسية الروسية في شيء، سوف يمضي اردوغان في الطريق الذي رسمه، في التاثير على اوربا واضعافها، لا بل غزوها على الاقل في احلامه.

اردوغان في ظل وضع عالمي معقد جراء انتشار جائحة كورونا، كان يجب ان يحارب المرض المتفشي، والذي يتوسع كل يوم، كان يجب ان يتعاون مع الدول المحيطة والدول الكبرى، في مسعاها لكبح جماح الفيروس، لا بالحروب التي يفرضها بالضد من ارادة شعوبها، في سوريا وليبيا وشمال العراق، وتدخله السافر في شؤون تلك المناطق التي تحولت، الى فوضى، ودمار، وتشريد، وتغيير ديمغرافي، وغياب الدولة التي نشأت وتطورت، عبر عقود من السنين، بجهود وعرق الكادحين من ابنائها.

سيكون الدرس قاسيا على اوربا، وحتى تخفف من وطأته، عليها باستنكار قرار اردوغان، وفرض اجراءات او عقوبات عليه وعلى كيانه، والحد من التعامل الاقتصادي مع دولة تدعم الارهاب، كما راينا قبل عدة سنوات، كيف مر الآلاف من المتطرفين، من شتى انحاء العالم الى سوريا والعراق، لتنبثق دولة الخلافة المزعومة التي ما زال خطرها ماثلاً، وما زالت الجرائم البشعة التي ارتكبتها، وكل المجاميع المتطرفة يندى لها جبين البشرية قاطبة. بفضل اردوغان الذي يتصور نفسه سلطانا من سلاطين آل عثمان، الذي طوى الزمن صفحتهم والى الابد، وكذلك الاسلام السياسي المتطرف في دول المنطقة، وفي المقدمة النظام القمعي، التوسعي، الكهنوتي، والطائفي بامتياز، ذلك القابع في طهران في غفلة من الزمن، لاكثر من اربعة عقود.

فسحة امالي في رجوع المنطقة الى سابق عهدها تضيق، وستتوالى النكبات والحروب والتدخلات والمضايقات، لكل تلك الاسباب التي تضمنها المقال، وحتى تستعيد اوربا قوتها وهيبتها، يظل بصيص الامل معلقاً عليها، لنرى يوما فشل القرار التركي وعودة ايا صوفيا الى سابق عهدها: متحفا جميلا، آسرا للقلوب، وجاذبا للانظار، محليا ودوليا، وكذلك يكون محطة الزوار والسائحين من كل مكان.

nabeeldamman@hotmail.com

كاليفورنيا في 10 تموز 2020

  كتب بتأريخ :  السبت 11-07-2020     عدد القراء :  2091       عدد التعليقات : 0