الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بمناسبة عيد نوروز عيد الربيع*

    شهدتُ العديد من احتفالات نوروز في بلدتي، ففي الستينات كانت السلطة المحلية تمنع الاحتفال به، وكل سنة تقريبا كنا نصعد ليلة نوروز الى السطوح، نرقب توهج مشاعله في قمم جبلنا الشامخ، حيث ينهض بذلك العمل، المقاتلون الاباة، ويطلقون في ذات الوقت طلقات التنوير بالوانها المختلفة، الحمراء، الخضراء، والصفراء. كان ذلك يدخل السرور الى قلوبنا، في حين تشرع قوات السلطة باطلاق المدافع، وانواع الاسلحة باتجاه النيران المشتعلة.  في فترات اخرى كان بعض الشبان يرتقون المتون لاضرام النيران، للتعبيرعن كرههم وتحديهم للسلطات الغاشمة، التي تمنع الاحتفال بيوم له تقليد يمتد الى آلاف السنين، وكثيرا ما وقع العديد منهم، في قبضة السلطة لاستجوابهم وتعذيبهم. بعد ذلك قدّر لي ان اعمل في منطقة تقع شرق العمادية وشاركت المحتفلين طقوس الاحتفال من القاء الكلمات وتوزيع الحلوى وتقديم المشاهد التمثيلية، ونحن نحيط كتلة النار التي تصعد ألسنتها الى عنان السماء، ومقر اللواء العسكري لا يبعد سوى بضعة مئات من الامتار.

في ذاكرتي مناسبات تركت اعمق الاثر في نفسي ساسجلهما ببعض التفصيل:

    الاولى في يوم 21 /3 / 1963 ، اقيم احتفال كبير امام وادي دير الربان هرمزد في بلدتي القوش، التي تبعد في حدود 30 ميلا شمال نينوى، وفي فسحة خضراء تسمى محلياً( ﭽرّا) ، تنتشر فيها الورود الاذارية من مختلف الالوان، عدا الاحمر الذي ينتشر لونه في شهر نيسان. كنت في السادس الابتدائي فتغيبت عن المدرسة لاذهب مع صديق لي الى مكان الاحتفال، وفي بداية الطريق اي على اطراف البلدة، لاحت امامنا لافتة مكتوب عليها( ثوار جبهة القوش يحيون عيد الشعب الكردي الثائر نوروز) وبعد قليل وصلنا الى مكان الاحتفال المهيب ، فاذا اللافتات تحيط المكان،  والعشرات من المقاتلين (البيشمركة)  بازيائهم الجذابة، واسلحتهم المتنوعة وصفوف الرصاص تغطي اجسادهم، وفي الوسط عقدت حلقة واسعة من الرقص الشعبي التي تشتهر به المنطقة وكان يشترك فيها ذلك النسيج الاجتماعي العراقي من كلا الجنسين، والانصار من مختلف الاديان والطوائف والقوميات. كم جذبنا الاحتفال ونحن اطفال خصوصا سماعنا لاطلاق رصاصات الفرح، وهي تطلق في الهواء من شتى انواع الاسلحة. بعد انتهاء الخطب والاناشيد الثورية، أحيا المحتفلون تقليدا تشتهر به تلك المنطقة، وذلك بوضع حجر بارز، على مسافة لا بأس بها، ولاطلاق الرصاص عليه، للتدريب ومعرفة من يكون السبّاق في اصابة الهدف، توالى العديد من المسلحين، الواحد بعد الاخر في اطلاق رصاصاتهم المقررة، دون ان يصيب الهدف احدٌ منهم حتى عجزوا ، في تلك الاثناء طلبوا من( ابي جوزيف) المشاركة ايضا، فتناول بندقية انكَليزية، واتخذ وضع الوقوف ثم عبأ البدقية وأسندها علىكتفه، وبعد التسديد السريع وبلمح البصر، اطلق رصاصته التي حطمت الهدف، فتحول لون الحجر الى ابيض حليبي، يلمع مع انعكاس اشعة الشمس، فسرى الفرح في الحاضرين وصفقوا له، فالاعراف هناك تقتضي بتكبير شأن من يصيب النيشان، وكيف الحال عندما يكون الفائز، قائد الا نصار المحبوب توما توماس.

احتفال الانصار البواسل بعيد" نوروز" عام 1963 قرب كلي دير الربان هرمزد

     والثانية في عام 1983 حيث استقبلنا العام الجديد في وادي كوماته على الحدود العراقية– التركية، والجو قارس والثلوج تغطي كل مكان، والامكانيات شحيحة ومتواضعة جداً من كل النواحي، ونحن نشعل النار على مدار الساعة في كوخنا الطيني ونلقم تلك المدافئ السورية الصنع بالحطب الذي نقتطعه من الغابة القريبة، ثم ياتي الربيع ليحمل لنا اصواته والوانه ومباهجه، فنتسلق القمم العالية لجلب الورود التي لم ار مثلها في حياتي بحجمها والوانها الزاهية ورائحتها الزكية، فزينا ابواب كوخنا وبعض اكواخ الجيران بها اسوة بما كان يفعله اجدادنا في تلك الايام قبل الاف السنين في( بيث نهرين) من وضع اكاليل من الاغصان والازهار على مداخل بيوتهم تعبيرا عن فرحهم بمقدم الربيع والامل المتجدد.

احد احتفالات الانصار البواسل

   هيهات لسلطة تسوم شعبنا الهوان، ان تتركنا نفرح ونحتفل بحلول الربيع، ففي غمرة تحضيراتنا شرعت طائرات النظام تمرق تلك الاجواء، وفي يوم 19 /3  تحديدا ً انهالت علينا قذائف المدفعية بعيدة المدى من معسكرات النظام في منطقة برواري، وكادت قذائفها الاولى المباغتة تؤدي بحياة الطبيب ابو صلاح والدكتور ابو سامي( كاظم حبيب) وخرجنا من بيوتنا الطينية على جناح السرعة، الى مواضع معدة مسبقا ً ، ولم تزل مغمورة في مياه الثلوج والأشد أيلاما وجود عدد من الاطفال بيننا ، حيث امضينا الساعات الطوال ننتظر توقف العدوان، بعد زوال الخطر عدنا الى اماكننا السابقة وقد تجمدت اجسادنا واصطكت اسناننا، لا زلت اتذكر لافتة ( نوروز ﭙيروز بي) وقد اصبح قماشها اشبه بالغربال ، لكثرة ما سقطت عليه شظايا القذائف ، علما بان اصواتها التي يرتد صداها، من الوديان الجبلية المحيطة ، تتضاعف وتصبح اكثر رعبا وبشاعة. ومع ذلك جرت الاحتفالات والقيت الخطب والاشعار والمشاهد التمثيلية والبرامج المتنوعة وحتى المعارض الفنية حسب الامكانيات المتواضعة والتي استثمرت بابداع، وكذلك اضرمت النيران على قمم الجبال وكان الشهيد ريبور عجيل( ابو رزكار) سبّاقا في الوصول الى اعلى القمم التي يستغرق الوصول اليها عدة ساعات ليشارك في تلك الفعالية ، بعد عودته سألته عن جدوى ذلك، كون المنطقة حدودية مقفرة، رحّل النظام قاطنيها منذ عام 1979 فاجابني بالقول:  لهذا السبب صعدت الى اعلى القمم ليرى الناس في الاماكن البعيدة وحتى داخل تركيا مشاعل الحرية في عيد نوروز الخالد ابداً.

* من كتابي ( الجبال معاقل الثوار) الصادر عام

  كتب بتأريخ :  الأحد 21-03-2021     عدد القراء :  2553       عدد التعليقات : 0