لكل ظاهرة في الحياة دورتها، انبعاثها، ونمو تكوينها، نضوجاً وتكاملاً، وصعودها إلى مراتب امتلاك الحكمة والريادة. ومن الظواهر ما تكتمل بحيوات أخرى، ببنيان خلاياها وتعهد بذراتها ورعاية تفتحها على الحياة.
كانت (المدى) غريبة الدار، وهي تنبعث.. قامت وتفتحت أوراقها الأولى في ارض غريبة، ونشأت مأسورة، متأنية في التعبير عن مكنوناتها، وعيونها مفتوحة على وطنها المستباح تحت أقدام طاغية، وهي تلملم نفسها، وتطوي بما يُشبه “قماط” الطفولة، استعداداً للعودة، أصبحت (المدى) مشروع قيامة، تتعثر بآمالها الكبيرة ومخاوفها التي عقدتها تربة الاغتراب، الذي غطى زمن الوثوب من الولادة الأولى إلى اكتشاف الذات وما تستقصيه من هواجس..
كانت العودة إلى بغداد، بمقاييس الزمن، أشبه برحلة قوافل الصحراء، تتلمس بعض آثارٍ، وبعض ما يتركه المترحل من وعثاء السفر. وبمقاييس التمنيات وتشوفات المهجّرين قسراً عن أوطانهم الأولى، تسابقاً مع الزمن بحثاً عن المؤجل، ومحاولة لاكتشاف التصدعات التي طاولت المجتمع، والمسافات التي تفصل بين الانغلاق الذي ساحت في مساماته، نتيجة دهرٍ من الطغيان والحروب والحصار والمكابدة من مذلات التسلط والفاقة.
كان التساؤل الأول:
أي دربٍ مفتوح على الأمل، في وطن تعذرت عودة الروح إليه، دون “تدخلٍ “ و”احتلالٍ” و “فيضٍ” من اهتزاز القيم والمفاهيم، والتباعد بين ما استقر في النفوس من آثار الكراهية التي أنتجها الاستبداد، ومدى قوة الاندفاع لتجاوزها؟
وكان التساؤل الثاني:
في أي دربٍ، يتحامل ذلك الرهط الحامل لِهَمّ التغيير، يغُذ السير، مشمولاً بعافية التسامي فوق الجراحات، وزمن اللامبالاة من انتظار الأمل، الذي كاد يغفو في أحضان الطاغية، وتضاءل إشعاعه، حتى كأنه نجمٌ انطفأ بعد هنيهةٍ من انبثاق الكون والإرادة..؟
وكان السؤال الثالث:
أي الأسئلة هي الأصعب على الإدراك المفتوح على بناء مساحة بين الماضي والآتي الملتبس..؟
وكان الجواب:
الأسئلة الصعبة، لا يستقيم فك مغاليقها مع التردد، والاستخارة، والقلق من المحاولة..
فكان ميلاد العدد الأول من (المدى) الصحيفة..
وكان الدرب شديد الوعورة..
وكان البناة الأوَل، شديدي البأس والشكيمة والإرادة الوطنية، بنزعتها الإنسانية العابرة للطوائف والهويات الفرعية المستهلكة...
كان هؤلاء من طينة العراقيين الذين شرّعوا القوانين الأولى وخاضوا المغامرات الأولى الى غابات الأرز، وشيدوا الزقورات والجنائن المعلقة والملوية..
ولا تزال المسيرة تستهلك عافيتنا، لكنها عصية على فلّ إرادتنا المتضافرة..