لعل كل من يقرأ بعين موضوعية مجردة من العواطف والأهواء والأحكام السياسية المسبقة في تطور مواقف الإدارة الأميركية من وجودها العسكري منذ أحتلال جيشها العراق في 2003 حتى يومنا، سيخلص حتماً بأنها جادة لسحب جميع قواتها من أرض الرافدين، لكن لن يكون بطبيعة الحال هذا الانسحاب فورياً في وقت واحد بل على مراحل وبما بحفظ ماء وجهها كأقوى دولة عظمى ، وقد تأكدت هذه الحقيقة إثر زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الأخيرة للولايات المتحدة حيث أكّد رئيسها جو بايدن لدى أستقباله الأول " لن نكون في نهاية العام في مهمة قتالية في العراق " وأن الدور الأميركي سيقتصر على المشورة والتدريب . وإذا كان لايمكن الجزم بشكل قاطع في صدق النوايا الأميركية، لكن كل المؤشرات تقطع بأن المرحلة الأخيرة للانسحاب النهائي لن تكون بعيدة بأي حال من الأحوال لجملة من الأسباب الموضوعية والذاتية المتشابكة لسنا هنا بصدد تعدادها، لعل في مقدمتها ما يشكله الوجود العسكري عليها في العراق من أعباء باهظة سياسيا واقتصاديا، دع عنك الخسائر التي تتكبدها في الأرواح والعتاد؛ ويحدث هذا في وقت بلغت فيه الأزمات المتفاقمة داخل الولايات المتحدة مستويات غير مسبوقة تاريخياً .
ومن نافلة القول أن هذا الانسحاب لا تقدمه واشنطن كمنة على العراقيين أو من أجل سواد أعينهم؛ بل بفضل نضالات الشعب العراقي وقواه الوطنية والديمقراطية الشريفة بكل الوسائل النضالية المشروعة الملائمة غير الارهابية وما قدموه -شعباً وقوى - من تضحيات هائلة في هذا الصدد .
ومع أن تاريخ نضالات القوى الوطنية العراقية -وفي طليعتها الشيوعيون- يشهد بالدور المحوري الذي لعبته هذه القوى في تلك النضالات ضد كل أشكال الوجود الاستعماري الكولونيالي على أرض العراق وضد ربطه أيضاً بأي حلف من الأحلاف الأستعمارية( الموقف من حلف بغداد نموذجاً ) ، ناهيك عن تجربتها النضالية التاريخية ضد الوجود الإنجليزي تشهد بذلك، إلا أننا نجد اليوم بين صفوف قوى الإسلام السياسي ذات الميليشيات المسلحة والمحتمية بأيران من يزايد على القوى الوطنية للظهور بمظهر الأكثر حماساً للتعجيل بالانسحاب الأميركي الفوري في حين أن تاريخ الإسلام السياسي منذ تأسيس جماعة الأخوان المسلمين المصرية مجلل بعار التعاون والتواطؤ مع المحتل الأجنبي ليس في العراق وحده فحسب، بل في سائر البلدان العربية، ومازالت هي كذلك حتى وقتنا المعاصر والكل يعلم أن وصولها للسلطة جاء على ظهر دبابات المحتل الأميركي التي تطالب الآن برحيله في حين رفضت قوى وطنية شريفة، وعلى رأسها الحزب الشيوعي ، مشروع أسقاط النظام من الخارج . وبالتالي فإن هذه المزايدة إنما غرضها التشويش على المطالب الآنية الشعبية المشروعة الأكثر ألحاحاً ؛ وفي مقدمتها تحقيق الأمن والأستقرار للشعب العراقي وضمان الحد الأدنى من مستلزمات حياته المعيشية الكريمة من ماء وكهرباء ورغيف وسكن وجعل أسعار السلع الأساسية الغذائية تحت متناول أيديه؛ علاوة على أنهاء مشكلة البطالة بأدنى مستوى ممكن .
وفي ظل أسوأ أزمة مالية واقتصادية تواجهها الحكومة العراقية منذ قيام الدولة قبل قرن فإن تلك المطالب لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الوقف الفوري لنزيف هدر المال العام والفساد المستشري في مفاصل الدولة وملاحقة وضبط الفاسدين وتقديمهم لمحاكمات نزيهة عادلة لاسترجاع ما نهبوه من أموال الشعب بالمليارات ، والكشف عن قتلة النشطاء السياسيين الأبرياء ، وهذا بالضبط ما تخشاه قوى الأسلام السياسي التي ترفع عقيرتها مطالبة بالانسحاب العسكري الأميركي لأنها بدون ذلك ستكون على محك التجربة في مدى تمثيلها للشعب ؛ وسينكشف وزنها وقوتها الحقيقية بين الجماهير ويجردها من حقيقة شعاراتها المرفوعة ضد الاحتلال الأميركي والتي تستظل به مؤتمرةً في ذلك بأوامر الجارة إيران التي هي الاخرى لا تريد الانسحاب أن يتم وتفقد من جرائه الساحة السياسية الداخلية العراقية التي أتخذتها ملعباً لتصفية حساباتها مع أميركا .