بموته يوقظ في وجداننا جذوة ماضٍ كاد أن ينطفئ بفعل قسوة الحاضر وتجرده من كل قيمة تُعلي من شأن الإنسان، بل تتفنن في الحط من بارقة أمل في عبور دنس الرثاثة وسقوط المعنى وانزياح الظلامية المستبدة!
مات مظفر..
لكنه بقي منزها عن كل عيبٍ انتبذه في سيرته وإبداعه وحسه بالعدالة..
لم يفقد، رغم قسوة ترحاله في أزمان ومقامات كانت موضع حفاوة به، ظل متشبثاً بحنين مولده إلى الوطن. لكنه لم يكن أي وطن. بل فضاءً يتسع بالأمل في المرتجى بعالم الفضائل وأحلام السعادة، دون أن يثنيه عن ذلك القهر والاستبداد والعهر السياسي وأشباه الرجال وفضلات الجهالة والغباء ومتعهدي الاستباحات التي يأنف عنها العيب نفسه.
مات مظفر..
لكنه موت الانبعاث للتبشير باستحالة دوام الضيم، واستمرار أسر الوطن، واسترقاق إرادة العراقيين، وهيمنة لصوص المقابر الملثمين بجبنهم وإحساسهم بالهزيمة التي لا مفر منها، مهما تطاولوا، وبأية وسيلة تشبثوا، وبأي سلاح تفرعنوا..
منذ عقدين، بقي مظفر زائراً مقيماً في المشافي، يتوسد آلامه بصمت. وبين رحلة استشفاء وترجل، بقي مقيماً على إرادة رفض "هبات رخيصة" لأشباه رجالات دولة، كما لو أنه ليس مظفراً. وفي كل مرة كان يرفض بما يشبه طرد حامل "البريد".
كان يقول: يا للوقاحة، وهو يرد مظروف أحد لصوص المال العام، يريد أن أزكي وساخة ضميره...!
ويكرر القول مع كل موفد يحمل عار رئيس وزراء، أو وزيرٍ ملوثٍ…
ظل مظفر، رغم سماحته، يأنف عن استقبال وزيرٍ أو موفدٍ وزاريٍ، خشية من شبهة تنال من براءته..
عاش مظفر متجنباً، على قدر حساسية اللحظة التي يواجه فيها مصيره، كل ما يمكن أن يثلم ما أراد أن يشكل هويته الإنسانية، دون أن ينكر أو يتنكر لضعفه الإنساني وهو يواجه صروف الحياة وتقلباتها ومساراتها التي قل مثيلها من العسف والاستلاب..
مات مظفر دون أن يخلّف ولداً أو متاعاً أو عهدة تكون موضع نزاعٍ أو تربصٍ. فقد وزع كل ما كان يملك من مالٍ قبل عقدين من رحيله على من اصطفاهم من أهله المقربين، دون أن يفكر بأنه أولى بما يملك وهو يعاند المرض والمصير المجهول..
لكنه ترك أخاً وصديقاً ورفيقاً قلما يوجد له مثيل بالوفاء، والإيثار، والرعاية، والحب. ترك له حازم الذي لم يفارقه لحظة واحدة ملازماً سريره دون انقطاع طوال ثلاثة عقود. حازم الذي كان له أماً واباً وأخاً وأختاً..
لم أعرف في حياتي "فضيلة" مداحي الملوك والأمراء وذوي الجاه!.. لكني سأفعل هذا الآن، منزهاً من كل مصلحة، دون أن ألتقي أو أحادث من أوجه له التحية والتقدير، وخالص العزاء أيضاً، لأنه ظل يحتضن مظفر طوال مرضه مكرماً معززاً بصمتٍ.. أحيي دون ترددٍ وأياً كان وراء كرمه واحتضانه الشيخ سلطان القاسمي.
مات مظفر وفي خاطره بعد أن فقد التعبير: يا سعود احنه عيب انهاب يا بيرغ الشرجية..
سلاماً مظفر.. وإلى الملتقى..!