ثلاث تجارب للتطبيقات الديمقراطية على الطريقة الغربية تم استنساخها في ثلاث دول من دول الشرق الأوسط بداية ووسط القرن الماضي، وفي مقدمتها ديمقراطية أتاتورك في تركيا بعد اضمحلال الإمبراطورية العثمانية الشمولية وانحسار الحكم التركي في آسيا الصغرى بإعلان الجمهورية التركية التي اعتمدت العلمانية أساساً لتجربتها في الديمقراطية، تلتها بعد ذلك وفي عام 1943 التجربة اللبنانية التي وضعت لبناتها الأولى الدولة الفرنسية، وما لبث بعدها بسنوات قليلة إعلان دولة إسرائيل ومعها تجربتها الديمقراطية على الطريقة الأوروبية، وفي التجارب الثلاث واجه المشرعون والمفكرون السياسيون تحديات كبيرة في عملية التطبيق، وخاصة ما يتعلق بمواجهة البنية الاجتماعية ومكوناتها والولاء الديني والمذهبي والعرقي المتشدد الذي أعاق تقدم ونجاح ذلك النظام رغم بعض النجاحات التي تحققت على المستويين الاجتماعي والسياسي، لكنها بقيت تصطدم بجدران الانتماءات العابرة للمواطنة الجامعة، بما جعل برلماناتها لا تمتلك تلك المصداقية في تمثيل المواطنة الحقة، وبقيت مجالس تمثيلية للأحزاب واتجاهاتها حصرياً.
في التجربة الأولى، ورغم القوانين الصارمة التي أصدرها أتاتورك في حينها لصناعة شخصية وطنية فوق الانتماءات الثانوية كما كان يتصور، محاولاً إذابة مكونات رئيسة تكاد أن تتجاوز في تعدادها النصف من سكان جمهوريته في بوتقة عنصر واحد هو العنصر التركي، مانعاً أي استخدام لثقافات أخرى، لغة وتقاليد وفلكلور، وصل إلى حد منع استخدام قبعات معينة تعكس فولكلورا مغايراً، فشل في قمع الكرد والأرمن، وتسببت سياسته باقتراف مجازر وحروب إبادة، ومن ثم استمرار الانتفاضات وأعمال المقاومة لسياسته حتى يومنا هذا بما منع طموح تركيا في دخول النادي الأوروبي ومعاييره.
وفي الثانية، ورغم بعض النجاحات اللبنانية هنا وهناك، إلا أنّ الأساس الخاطئ الذي بنيت عليه التجربة الديمقراطية انتهى بلبنان إلى الحال الذي يعيشه اليوم من تشرذم وتسلط قوى طائفية مرتبطة بمشاريع إقليمية لا علاقة لها بالمطلق بلبنان وشعبه، مما جعل مجلس نوابه وسلطته التنفيذية سلطات طوائف وبيوتات لا تمت بأي صلة لمفهوم البرلمانات وتعريفها الديمقراطي، وكذا الحال في الثالثة بعد اعلان دولة إسرائيل التي ادعت أنها واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط لكن ما يحصل فيها من صراعات على مدار الساعة وليس الأيام ومنذ إعلان تأسيسها يؤكد عكس ما تدعيه وما يذهب إليه البعض في اعتبارها دولة ديمقراطية على النمط الأوروبي.
خلاصة القول، إن التجارب الثلاث وما تلاها في كل من إيران الشاه ومصر ومن ثم الديمقراطيات المستنسخة في العراق وتونس وليبيا والسودان، اصطدمت جميعها بحقائق تؤكد أن النمط الأوروبي لا يمكن تطبيقه في مجتمعات لم يتبلور فيها مفهوم حر جامع للمواطنة وما تزال تعاني من تعدد الولاءات القبلية والطائفية والدينية وحتى المناطقية، ناهيك عن التبلور العرقي والقومي الذي لم يرتقِ بعد إلى مستوى المواطنة الجامعة لكل هذه الانتماءات، وهو بالتالي، أي النمط الأوروبي، يصلح في مجتمعات تجاوزت ظروفها التاريخية منذ زمن طويل وتطبيقها في مجتمعاتنا يعطي نتائج عكسية تماماً، وهذا ما يحصل فعلاً، وخير نموذج في ذلك ومنذ قرابة العقدين في العراق، حيث فشلت كل قواه السياسية وحتى الاجتماعية من إنتاج برلمان يمثل الشعب العراقي تحت مظلة مفهوم المواطنة، بل حصل العكس تماماً، إذ تحول البرلمان إلى مجلس للأحزاب التي لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من مجموع الأهالي الذين يرفض غالبيتهم حتى فكرة الاقتراع.
في المقابل، نجحت بعض دول المنطقة في إنتاج مجالس للشورى هي الأقرب إلى سيكولوجية مجتمعاتها وثقافاتها المتأصلة، سواء في التقاليد والعادات أو في مسألة تعدد الولاءات، بحيث منحت فرصة الانتخاب وبنسب محدودة وشروط ملزمة إزاء نسبة أخرى في الاختيار والتعيين على خلفية البناء الاجتماعي المتوارث والقيمة المعرفية والمكانة الاجتماعية والاستشارية للأعضاء المختارين، وهي الأقرب إلى فكرة مجالس الأعيان والشيوخ واللوردات في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها من الدول التي تضع بعض الكوابح في مجالسها التشريعية لكي لا تتغول أو تتسيد، وإن اختلفت عملية الاختيار.
ولذلك نرى أن الناتج الانتخابي في معظم دولنا لا يعبر حقيقة عن الصورة الأصلية لواقع مجتمعاتنا بسبب الخلل الكبير في الناخب والمنتخب، مما يتطلب إجراءات جدية للارتقاء بمستوى الاثنين من الناحية النوعية تؤهلهم كمرشحين وكناخبين بمستوى تمثيلي رفيع، وفي مقدمة تلك الإجراءات ضرورة إيجاد ضوابط مشددة للناخبين، بدءاً من رفع سقف العمر إلى 25 سنة مع شرط إكمال الدراسة الثانوية على الأقل، ناهيك عن مجموعة ضوابط أخرى تجعل عملية الانتخاب بمستوى شروط الترشيح ومميزاته، مما سيشجع الناخبين على ضرورة التعلم لممارسة حق ليس رخيصاً أو سهلاً، بل يحتاج إلى جهد ومميزات تؤهله للقيام به، وفي ذات الوقت يبدو أن رفع سقف العمر للمرشح أيضاً بات ضرورياً مع التشديد على مسألة المؤهلات العلمية والمعرفية وضوابط اجتماعية وأخلاقية أخرى تؤهله للجلوس على كرسي البرلمان ممثلاً للشعب لا لحزب أو عشيرة أو دين أو مذهب أو عرق فقط.