في ظل الأوضاع السياسيّة والأقتصادية والأجتماعية المعقّدة التي تمر به بلادنا، كان من الضروري أن تجتمع القوى الديموقراطية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الجذري لشكل نظام الحكم بالبلاد، لصياغة وثيقة سياسية وبرنامج عمل طموح للتحرر من الأزمات السياسية التي تلقي بظلالها على الأوضاع الإقتصادية والأجتماعية المزرية التي تصنعها قوى المحاصصة، للوصول بشعبنا ووطننا الى برّ الأمان، هذا البر الذي يتحوّل الى سراب حقيقي كلمّا طال عُمْرْ نظام المحاصصة الطائفية القومية الفاسد والفاشل. فهل طرح المؤتمرون في مؤتمرهم المنعقد ببغداد اواسط تشرين الأوّل 2022 برنامج عمل وفق أمكانياتهم السياسيّة ومقبوليتهم في شارع سياسي مبنى على الأستقطاب الطائفي والقومي؟ وما مدى أمكانية تحقيقهم لبضع نقاط وليس كلّ ما جاء في الوثيقة السياسيّة تحت عنوان "خطى نحو التغيير ومعالجة الازمة"، والتي تتطلب وفق الوثيقة "مرحلتين من الإجراءات اللازمة لمعالجة الأزمات المتراكمة"، وما هي السبل للبدء في النضال لتحقيق التغيير الحقيقي لنهج المحاصصّة ونحو بناء دولة مؤسسات؟
لقد جاء في ديباجة الوثيقة ".. ونرى أن توفر إرادة سياسية فاعلة وثقة شعبية ودعم جماهيري واسع، يشكل ضرورة لتجاوز ما تراكم من مشكلات وأزمات على الصعد المختلفة، فيما يبقى المحك لجدية المشروع هو (الممارسة) والمعيار هو (المنجز)، وأن (المصداقية) تكمن في التطبيق الفعلي والنتائج"، وهذا الأمر يُعتبر تقدّما في نظرة القوى الديموقراطيّة المجتمعة للأنتكاسات والفشل الذي لازم عملها منذ الاحتلال لليوم.
لقد شخصّت الوثيقة الطريق الأوحد للتغيير الديموقراطي المطلوب وهو "تغيير موازين القوى لصالح أصحاب هذا المشروع ومناصريه وداعميه"، وشخصّت أيضا وبوضوح من أنّ هذا التغيير يحتاج الى حشد "طيف واسع من القوى الداعمة، السياسية والمجتمعية، ولبرنامج وخطوات جريئة وارادة كافية لوضع العراق على سكة التغيير الحقيقي". من هي هذه القوى السياسيّة والمجتمعية؟ هل هناك قوى ديموقراطية سياسيّة أو مجتمعية لم تحضر المؤتمر، ولماذا؟ هل تعوّل القوى الديموقراطيّة على قوى سياسيّة فاعلة في السلطة منذ بدء نظام المحاصصة لليوم؟ إن كانت هناك قوى سياسية أو مجتمعية لم تنظم الى مظلّة القوى الديموقراطية في مؤتمرها، فعلى المؤتمرين التحرّك وبسرعة من اجل تحقيق هدفهم في "تجمع القوى والحركات المؤمنة بالتغيير الديمقراطي السلمي"، فالوقت ليس في صالح وطننا ولا شعبنا وقوى المحاصصة الفاسدة تستعد من خلال إقرار الميزانيّة لجولة سرقات ونهب جديدين. أمّا إن كان المؤتمر يعوّل على وجود تجمّعات وطنيّة صغيرة داخل أحزاب سلطة المحاصصّة، فأنّه كمّن يبحث عن إبرة في أكوام من القشّ موزّعة على كل التراب العراقي. إعلان اليأس من قوى المحاصصة في أي تغيير منشود لبناء نظام سياسي مؤسساتي في بيانات القوى الديموقراطيّة بشكل واضح، هي الخطوة الجريئة لوضع العراق على سكّة التغيير الحقيقي كما جاء في ديباجة الوثيقة.
جاء في حقل "مباديء أساسية" للوثيقة، من أنّ القوى الديموقراطية ترى، تتبنى، تؤمن، تتمسّك وتنشد تحقيق جملة من المطالب، والتي بالحقيقة هي مطالب تهم حياة الناس والوطن بشكل مباشر. والمبادئ الاساسيّة التي وردت في هذا الحقل تعتبر كلام أنشائي، إن لم تكن للقوى الديموقراطيّة القدرة على تحويلها من نصوص أنشائيّة الى نصوص قانونيّة ودستوريّة. ولتحقيق هذا الأمر أي التغيير المنشود و"تجاوز الأزمات المتراكمة"، فأن المؤتمرين طرحوا في الوثيقة الختامية خطّة عمل من مرحلتين.
المرحلة الأولى في الوثيقة وهي لا بدّ منها كما جاء فيها، تتكوّن من ثمانية إجراءت تغطّي مساحة واسعة من المطالب والتي هي بالحقيقة أسس قوية للبدء بإصلاحات تعتبر مقدّمة لا بدّ منها نحو التغيير المنشود ديموقراطيّا. وقد بدأت هذه الأجراءات بالمطالبة بـ "اتخاذ إجراءات عاجلة، بما يخفف من معاناة الناس الاقتصادية والمعيشية والخدمية والصحية، فتح ملفات الفساد ومحاكمة المفسدين واسترداد الأموال العامة المنهوبة، احترام مبدأ الفصل بين السلطات، صيانة استقلالية الهيئات المستقلة، محاكمة المجرمين وداعميهم من قتلة المتظاهرين، والكشف عن مصير المغيبين من الناشطين وغيرهم.. وجبر الضرر للضحايا وعوائلهم، التطبيق الفعلي والعملي لقانون الأحزاب السياسية، بما يؤمن حصر السلاح بيد القوات الأمنية الدستورية، حماية سيادة العراق من التدخلات والانتهاكات الخارجية، وضمان استقلالية القرار الوطني العراقي، أنهاء معاناة أبناء شعبنا من النازحين والمهجرين". أن تقوم أحزاب المحاصصة بتنفيذ هذه الأجراءات يعني قبر النظام القائم على الفساد والنهب المُنظّمّين، وهذا الحلم من المُحال وليس من الصعب تحقيقه. فهذه القوى لا تمثّل نفسها فقط لتكون هناك أمكانية ولو لتيّارات صغيرة منها كي تشعر بآلام الناس ومحنة الوطن للبدء بهذه الأجراءات، بل تمثّل قوى أقليمية ودولية لها أجنداتها في بلادنا وهو ما جعلها في مأمن لليوم على الرغم من فسادها وأجرامها ونهبها للمال العام. أنّ تحقيق هذه الأجراءات بحاجة الى جهات سياسيّة تمتلك القرار السياسي، فما هي سبل القوى الديموقراطيّة لتنفيذ هذه الأجراءات وهي لا تمتلك القرار السياسي، بل ولا تستطيع التأثير فيه ..؟
المرحلة الثانية وفق الوثيقة تتألّف من 24 مطلباً يجب تحقيقها ، وهي الأخرى تغطي مساحة واسعة من المطالب الضرورية لبدء التغيير. الا أنها تصطدم هي الأخرى كما سابقتها بعدم أمكانية القوى الديموقراطية لتوفير الأرضية المناسبة لتحقيقها، فهي ليست على رأس السلطة، ولا تمثيل برلماني مؤثّر لها في السلطة التشريعية، ولا تمتلك إعلاماً مؤثراً بين مئات الفضائيات والمنصّات الأعلامية لقوى المحاصصة، وفقيرة ماليا مقارنة بأحزاب حيتان الفساد. وحتى مطالبها بأصلاح النظام الأنتخابي وتعديل الدستور يعتبران ترف سياسي لعدم أمكانية تحقيقهما، كون مفاتيح التغيير هنا بيد نفس القوى الفاسدة التي تسن قوانين أنتخابية على مقاساتها، ولا مصلحة لها في تغيير ولو بعض البنود من الدستور الذي كُتب على عجالة. وفي هذه الحالة فأنّ كل ما طرحته الوثيقة عبارة عن مناشدات ليس الّا، فتبني أية قضيّة دون أمكانية النجاح فيها يعتبر فشلا. ولكي لا يفشل المشروع الديموقراطي للتغيير، فأنّ القوى الديموقراطيّة بحاجة الى تجاوز حالة الأنا فيما بينها، تواجد ميداني في المدارس والمعاهد والجامعات فالطلبة وكما برهنت إنتفاضة تشرين كانوا القاطرة التي ما أن تتحرّك حتى كنا نرى الرعب مرسوما على وجوه المتحاصصين، تواجد شبه مستمر في الأسواق ومناطق تجمّع المواطنين وأنتقاد السلطة في عدم توفير الخدمات للناس من خلال حديث مباشر معهم، عدم الثقة بأي تيار ديني أو شخصية دينية والتعاون معهما وإن على مستوى الشارع، كون أنتفاضة تشرين أثبتت انهما الخطر الأكبر أمام أي تغيير حقيقي لشكل نظام الحكم بالبلاد، عدم الثقة بالقوى القومية في خوضها نضالاً وطنياً من أجل التغيير كونها جزء فاعل من نظام المحاصصة والفساد ونهب ثروات الشعب، تنظيم تظاهرات وأعتصامات عند كل أخفاق سلطوي وما أكثر أخفاقاتها، تشكيل لجنة عليا تأخذ على عاتقها تنسيق العمل بين مختلف أطراف القوى الديموقراطية ودعوة غير المنضوية منها الى الأنظمام للتيّار خدمة لمصالح شعبنا ووطننا، أجراء أتصالات مستمرة مع مكتب الأمم المتحدة ببغداد والأجتماع بها بشكل مستمر لتوضيح وجهة نظر القوى الديموقراطية حول الأوضاع السياسية والأقتصادية والأجتماعية وضرورة تحسين الحياة السياسية والأقتصادية والأجتماعية بالبلاد، العمل على إمتلاك وسائل أعلام جماهيرية كفضائية مثلاً لمواجهة الخطاب الأعلامي الديموغاجي للسلطة، عدم حصر المؤتمرات والأجتماعات والندوات في بغداد وحدها، بل عقدها في مختلف المحافظات لبناء أواصر سياسية مع قطاعات جماهيرية مختلفة.
نتيجة الجهل والتخلف وانعدام الروح الوطنية والتمترس الطائفي والقومي، فأن التغيير الحقيقي لا يأتي عبر صناديق الأقتراع في ظل سلطة المحاصصة التي تدير دفّة سفينة البلاد نحو خلجانها. العراق اليوم بحاجة الى نخبة سياسية وطنية تنبع من رحم معاناة شعبنا ووطننا، نخبة على تماس مع حاجات الناس اليومية وترجمتها الى أنتفاضة جديدة، على أن لا تكتفي بأستقالة رئيس وزراء ليأتي غيره من نفس فريقه ولتستمر دورة الفساد والنهب والجريمة.