بات صدري يضيق كلما التَفتُ حولي ابحث عن بارقة أملٍ وسط الخرائب التي يعيد تدويرها على مدى عقدين من لا يصلحون للتدوير من رموز الطبقة المتنفذة في خرابتنا التي باتت شُبه دولة، أو لا دولة، أو مستنقع للنفايات السياسية المسمومة.
كاد التفاؤل الذي ظل يلازمنا في أحلك الظروف التي عشناها في ازمان المستبدين الملوثين بوهم الامجاد الخالدة، يتآكل في ظل أولياء الدم والرثاثة وأبناء الصدفة العمياء. فما الذي تبقى؟
انكفأت مرات عدة. بل وأعلنت «استقالتي من هذا الوطن» تحت ضغط العواصف السياسية التي تلازمت مع صعود أنماط الاستبداد الطائفي والكراهية المولودة من رحم النظام الهجين للإسلام السياسي، ورموزه المستنسخة من عصور الجهالة والرطانة الإيمانية والقتل بذريعة «الهداية» ونشر «الفضيلة» المعجونة بخميرة «العفن».
بيد أنني رأيت في «الصمت» عند أكثر من منعطف، ملاذاً في مواجهة الانحدار والتفكك والتآكل لمنظومة الحكم المشوهة، بل وفي المنظومة الاخلاقية والثقافية السائدة، حيث الهيمنة للنهب والفساد وتجريف المجتمع من كل مواطن القوة والبناء واستعادة جذوة الأمل.
أضحى «الصمت» في منعطفات الضعف الإنساني الذي لازمني، وكأنه مرمى للتواطؤ، أو وجهاً آخر لانتظار طويلٍ آتٍ يبدد اليأس، وقد يكون مفتاحاً للفرج!
وأنا أداري صمتي كما لو أنه وسيلة خلاص. فاتني الالتفات الى أيقونات الإيمان العميق بالانبعاث وهي تتحدى مظاهر اليأس والاستكانة والاستسلام. فاتني ما ينهض، غير هيّاب للرصاص وكل وسائل طرفٍ ثالثٍ مهما تلون. فحتى حين تبدو كما لو أن التعب نال منها، استكانت تنهض من جديد. انها أيقونات تتناسخ من زمن سبارتاكوس والمسيح وأباذر والحسين والقرامطة، وسلام عادل ومواكب المؤمنين بأن الحق يظل حياً لا يموت ما دام وراءه مطالب.
في لحظة مقاربة مع يأسٍ حالم التفت حولي فتدافعت الى ذاكرتي شبه المحبطة، العشرات والمئات من الأيقونات ممن ظلت على إيمانها وانشدادها الى الأمل والتفاؤل التاريخي بالرغم من رحلة المعاناة والتعب المضني، ومرارات الخيبة والوهم، وهم يقعون في فخ الرثاثة وحكام الصدفة ممن تدثروا بعباءات أفسد خلق الله ممن حكموا العراق، والتي خيطت بنسيج جيف القطعان النافقة.
أستذكر لأستمد بعضا من أمل، محمد الخضري، ذبيح البعث لحظة الاحتفال ببيان 11 آذار المخادع، والعشرات من الذين تعالَوا على المشانق، ذبائح البعث في أعراس كمائن الجبهة «الخديعة» وهي تلفظ أنفاسها في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي.
وأتذكر نماذج أخرى ظلت تحيا على الأمل دون أن يفارقها حتى في لحظة الوداع الى الأبدية. مأثرة كل منهم تتجسد في الجسارة والإيثار وإنكار الذات. هادي العلوي، المجبول على الكفاية والنزاهة حد الإدقاع. غانم حمدون الممسوس بالطهارة والزهد دون ادعاء بالبطولة. عبد الرزاق الصافي المثقف المتعبد المترفع عن نزعة المكابرة والترفع عن الواجب، بذريعة «المكانة» لسلطة الثقافة. فائق بطي الارستقراطي الذي عاف طقوسها وامتيازاتها، وعاش كادحاً متقشفاً منزهاً عن الغرض.
وهناك من صار نموذجاً للتفاني ومروءة زمن الإيمان والرهافة الثورية: جعفر الصفار.. العامل الفني، المنحدر من عائلة مستورة، المسؤول عن والدته وشقيقتين في عمر الدراسة الابتدائية.
كان جعفر يعمل في مصنع لأقرباء ميسورين. وفي لحظة مواجهة بين خيار الانتماء وحس العدالة وبين تفضيل الرابطة العائلية، بما تنطوي عليه أيضاً من شبه امتياز، أقله بيت يأويه والعائلة، في تلك اللحظة الفارقة، لحظة اليقظة والتحول، اختار الصفار الاصطفاف مع رفاقه العمال في مواجهة قريبه رب العمل!
في مسيرة حياته الاسرية، سلسلة من الإيثارات والتخلي عن اي نزوع ذاتي ينال من حسه الإنساني وشعوره بالمسؤولية، دون استثناء التضحية بما هو حق للتكوين. فتخلى عن متابعة دراسته ليرعى عائلته. كبُرت شقيقتاه، فتوح ومها، وتخرجتا واصبحتا سيدتين فاضلتين بعد أن تزوجتا في كنفه، وصارت كل منهما أماً ولها احفاد أطباء ومهندسين وموظفين. وواصل هو حياته، نفس الحياة وليُصبح بعد أن صار خارج معمل العائلة الكبيرة، مع شريكة حياته نحّالاً متميزاً يُنتج عسلاً حلالاً لا شائبة فيه، إذ حرص على أن يتنقل بـ«قفار نحله» خلايا النحل من مواقع في الوسط الى الجنوب ومنه الى ارياف كردستان حيث يتغذى النحل من موائد الطبيعة العذراء المنَزَّهة من الغش!
بعد اسبوع من اجتياح جحوش الحرس القومي في 8 شباط 1963 وصلنا الى مشارف بغداد، الشهيد محمد الخضري مسؤول سجن الكوت وأنا برفقته، بعد نجاح السجناء في هَد بوابة السجن ليس بمعزل عن تواطؤ اعضاء واصدقاء الحزب من السجانين.
حال وصولنا الى العنوان المقصود من بيوت منطقة المشتل، حيث يُفترض وجود أحد كوادر الحزب؛ فوجئنا باقتحام جلاوزة «الحرس القومي» للبيت قبل دقائق من وصولنا. لم يبق أمامنا سوى العودة الى البرية المتاخمة لحي المشتل التالي لبغداد الجديدة وانتظار قرار الحزب.
بعد ليلة في العراء المكشوف، والرصاص يلعلع طوال الليل يبتعد أزيزه أحيانا ويقترب من موقع تخفينا، جاءنا رفيق مسؤول من أحد تنظيمات المنطقة من اسرة السيد الحيدري الكريمة، وقادنا بحذرٍ الى بيت رفيقٍ عرفنا بعد ذلك أنه جعفر الصفار. وببهجة من يحتضن أباً عائداً أو أخاً عزيزاً فرقت بينهما الاقدار، استقبلنا جعفر محتفياً بنا، دون ادنى مظهر للارتباك او القلق او الهلع، رغم أن احتمال «كبسنا» في بيته ونحن شيوعيان هاربان من السجن عائدَان الى بغداد للانضمام الى مقاومة الانقلاب الدموي المشبوه. كان مثل هذا الاحتمال وارداً ويشكل موتاً محققاً لنا جميعاً، اذ لم يتوقف القتل العشوائي في الشوارع على مدار الساعة تنفيذاً لبيان (13) الذي أصدره الانقلابيون ويطالب بقتل كل شيوعي اينما وجد!
وبسبب هذا البيان الفاشي استشهد الآلاف على مدى الاسبوع الذي تلى الانقلاب مع تواصل المداهمات دون توقف ليل نهار. كان احتمال مداهمة الحرس القومي لبيت جعفر أقرب للواقع. وذلك كان يعني - إن تحقق - كافيا لإشعال النار في البيت على من فيه..! ولم يكن جعفر ساهيا عن ذلك الاحتمال وما يعنيه من موتٍ محقق، الا أن ابتسامته وفرحه واحتضانه لنا ظل يملأ ارجاء البيت ناقلاً بهجته واحتفاءه الى كل أفراد الاسرة!
على مدى سنوات الهروب والالتحاق بالنشاط الحزبي، حتى فشل سفري الى موسكو للدراسة، ووقوعي في قبضة جلاوزة الامن وتنقلي بين الموقف العام وسجن بغداد ثم سجن الحلة، ظل بيت وجعفر مأواي وجعفر وآل بيته أهلي، يتنقلون معي من بيت سري الى آخر ويتابعونني في المعتقلات والسجون!
استطعت الافلات من اعتقالاتٍ عديدة. ثم شاء الحزب ان اسافر للدراسة في المدرسة الحزبية العليا في موسكو «أكاديمية العلوم الاجتماعية» فأصر جعفر هذه المرة على أن يتخلى لي عن وثيقة سفره، وبت منذ ذلك الحين أُعرف على مدى سنوات لاحقة في الخارج، في بيروت ودمشق باسم «علي عبد الخالق» وبهذا الاسم كنت أصرح باسم قيادة الحزب وأذيل بيانات تصدر للحزب. وظل حامل الاسم مجهولا لسنوات.
في سبعينيات القرن الماضي التحق جعفر بالدراسة المهنية لبضع سنوات في هنغاريا، بمبادرة من الحزب ودون طلب منه. كان ذلك الامتياز الوحيد (إن كان فيه ثمة امتياز فهو حق تمتع به مئات أصدقاء الحزب)، وعاد بعد اكمال دراسته المهنية الى الوطن ليواصل مسيرته، هذه المرة نحّالاً. ولم يغادر البلاد حتى سقوط الطاغية.
ظل جعفر مكتفياً بشغفه الجديد، مؤكداً كينونته كإنسانٍ شديد التعلق بماضيه المضيء بالجسارة والمآثر المُنزهة عن الغرض، المتعالي على المناقب الأقرب الى التضحيات التي قاربت المخاطرة بحياته والمغامرة بحياة أحبائه.
لم يعرف عن جعفر أي مظهرٍ للندم، ولم تجد الحسرة طريقاً الى قلبه على سنواتٍ انقضت دون أن يحقق حياة مستقرة. أقرب اصحابه استعصى عليهم استدراجه الى عتبٍ أو لومٍ للحزب او الرفاق حتى من اولئك الذين يبدو أحياناً أنهم طووا صفحته وصار بالنسبة لهم ماضٍ مضى.
على مدى ستة عقود من علاقة أخوتنا التي تعمدت بالمخاطر والتحديات، وكادت في أكثر من منعطف أن تصبح موتاً محققاً، ظل جعفر مكتفيا بمفهومه للإيثار والتضحيات الكبرى كيقظة ضمير ولحظة انتباهة أقرب للتبشير بآتٍ لا ريب فيه، حيث الانبعاث، والقيامة التي تستنهض بالعمل والأمل كل المعذبين الذين لوعهم سوء التدبير أحيانا، وضعف اليقظة والعزيمة أحياناً أخرى، وأطاح بقوة شكيمتهم وعلو شأنهم تراجع الامل بالمرتجى.
جعفر لم يقايض مأثرته وتضحياته باستجداء وظيفة أو تقاعدٍ أو قطعة ارضٍ أو مكافأة سجينٍ أو راتب لاجئ في منافٍ كاذبة.
جعفر الصفار لم يفقد الرجاء بما هو آتٍ يعيد الاعتبار للقيم والمبادئ التي آمن بها وكرس لها حياته حتى في لحظات معاناته وهو يعارك المرض، موصداً بوجهه اي منفذ لتسلل اليأس من الحياة والوعد بعالم أفضل جدير بالإنسان.
وإذ يظل يحلم، يواصل عناده في مقاومة لحظات الضعف الانساني، مستثيراً في نفوس من أظناهم الانتظار ونال منهم الشك وسوء الظن، القدرة على تغيير الحال واجتثاث كل ما هو رثّ ومنّفر للضمير والوجدان والحس الإنساني.
تلك هي مأثرته هو ومن على قماشته من الأحياء، مأثرته الجديرة بأن نستضئ بها لتكون رمز حلمٍ يتوقد ويتوهج وينير دروب الذين لا يعرف اليأس سبيلاً لإطفاء جذوة الامل في وجدانهم.
سأتذكر جعفر وهو يهمس في أذني:
ليس بالصمت نهزم الظلام يا رفيق…!