الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الرشوة في دوائر الدولة..هل صارت ظاهرة؟

تحليل سيكوبولتك

كنت راجعت إحدى الدوائر الحكومية بخصوص معاملة معينة،فأعطيت الملف لشخص كان يقف في الشباك ورجوته ان يستعجل فيها ان امكن فقال لي (اذا مستعجل خلي بالفايل 25 الف).

وتساءلت مع نفسي ما اذا كانت هذه (الرشوة) شائعة ام حالة استثنائية. ولأن من عادتي ان استطلع الرأي بخصوص ظواهر اجتماعية فأنني توجهت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الأستفسار:

(هل صحيح ان المراجع لأية دائرة حكومية في بغداد..ما تمشي معاملته إذا لم يضع بالفايل 25 الف دينار؟

الجواب..بالذمة).

شارك في الأجابة أكاديميون ومثقفون ومتابعون فكانت النتائج ان الذين نفوا وقالوا (ماكو هيج شي) لا تتعدى نسبتهم 3‌%، و قال احدهم بالنص:

- لا ماكو هيج ابدا خاصة بدوائر البلديات و دوائر العقارات والضريبة، فردت عليه احداهن:

- اكو..دفعت 300 الف..خلونا ساكتين.

وردّ آخر: للاسف اكو، بس منكدر نحجي خوفا من الدعاوي الكيدية. نسكت ونقول لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

وقال أديب: أرى في الأمر مبالغة..هذا حسب علمي.

وأقسم آخر: الشهادة لله، لم ندفع شخصيا هكذا مبلغ عند المراجعة،وانما رسوم ووصل واستمارات نكون بشكل معلن من دون اللجوء الى وضع مبلغ في الفايل.

وهناك من حددها بدوائر معينة:

- مو كل الدوائر، بس دوائر المرور شفتها بعيني.

- صارت عندي بدائرة المرور،، مو 25 الف.. أكثر.

-والله انا عن نفسي، راجعت الضريبة في حي العدل عبارة عن دائرة ابتزاز، يمكن صرفنا مليون دينار رشاوي في معاملة اصولية.

وهناك من سخر قائلا:

- خمسة وعشرين هاذي مال السلام عليكم!.. الموضوع اكبر من ذلك بكثير.

- هذا اذا تساهلوا مع المراجع وشافوه بلا ملابس!

وكان رأي الأغلبية المطلقة ان (الرشوة) موجودة، بينهم من خصها بدوائر معينة وآخرون عمموها..اليكم نماذج منها دون ذكر الأسماء:

بما ان الجواب سيكون بالذمة، فهذه الحاله لا تعمم على الجميع ولكنها موجوده في معظم الدوائر وخاصة في المعاملات المتعلقة بالاموال او العقارات،وهذه الحالات تحصل مع المحامين اثناء مراجعتهم، وهنالك حالات تنسيق خارج الدائرة. اما المعقبين فعملهم قائم على اساس مبلغ (٢٥) الف.نعم هذه الظاهرة منتشرة على نطاق واسع تحت مسمى (وين المالات).

أكاديمي: صعدت اكثر من درج قاصداً غرفة المسؤول المعني، فوجدت عند الباب طابور من المراجعيين.أخذت موقعي في آخر الطابور وانا انتظر دوري.كان الدخول والخروج واغلب المراجعيين كانوا فرحيين بسرعة انجاز معاملاتهم لااعرف لماذا مما اثار استغرابي!!

جاء دوري فزعق بوجهي بعد ان بحث في وسط الفايل(شنو هاي).. قال لشخص يقف منتصباً بجانبه(اخذه خلي ايكمل اوراقه).

خرج معي الشخص المعني وعند غرفة الباب (باللوفه) قال (جيب خمسه وعشرين خليهه بنص الفايل).عملت المطلوب ثم دخلت..فخرجت بعدها فرحاً جداً جداً اسوة بالاخرين.

كنت مارا في احد شوارع مجمع سكني فسمعت احدهم يحدّث الآخرين وقوفا (ياجماعة هذا الموظف خلص معاملتي وما اخذ مني فلس)،فدفعني الفضول وقلت له بعد ان توقفت بالقرب منهم (حبيبي اكيد هذا شيوعي) فقال: (يمعود لا مو شيوعي بس هوه انسان نظيف) وبعد عدة ايام رآني ذلك المتحدث وصرخ باعلى صوته قائلا:(ابشرفي هذا الموظف طلع شيوعي!).

كاتب: هناك أزمة أخلاق تعصف بالبلد وطبعا الموظف الصغير عندما يسمع بحجم الأموال المنهوبة والمسروقة وضعف الرقابة يصبح هذا دافعا له لممارسة الابتزاز والضغط على المواطن ليستجيب لرغباته.الرشوى والابتزاز أمر شائع ووباء استشرى كالنار في الهشيم. ولكن هل هو جديد ويرتبط بهذه المرحلة فقط..طبعا لا. خذ مثلا في الحرب العراقية الايرانية نوع وحجم تجهيزات وارزاق الجندي الإيراني والعراقي، ستجد البون شاسعا، حتى ان رأس النظام قال مرة لو أنني ارسلت للجنود جملا لوصلته فقط الاذان..وقس على ذلك.

· شاعر:عندما يسمع ويرى المواطن ان الرشوة وسرقة المال متفشية الى هذا المستوى يصبح لا اراديا ميالا الى التحصيل واكتناز المال بطريقة غير شرعية خوفا على نفسه.. وهذا يعني ان الحكومة هي الدافع الرئيسي لفساد المجتمع وفقدان الاخلاق.

· شنو الي تغير دكتور عن السابق..الفساد باق ويتمدد..الضريبة والطابو نماذج حية للفساد دون حسيب او رقيب تحت مرأى ومسمع المسؤول. ما تمشي شغلتك اذا ما تدهن زردومه كما يقولون.

اكتب اليك سيدي الفاضل وانا استاذ وبدرجة بروف منذ عشرين سنة. راجعت وزارة التعليم العالي قبل ايام مرتين وفيهما تمت اهانتي بشكل حقير رغم انني كنت مكلفا بعمل لصالح الوزارة.. والله المستعان فألى اين المهرب؟

التحليل

تعني (الظاهرة) بمفهومها الأجتماعي..شيوع فعل او سلوك بين افراد المجتمع،وغالبا ما تطلق على افعال ما كانت موجودة بمثل ما صارت عليه، مثل المخدرات في العراق التي كانت نسبتها قليلة في سبعينيات القرن الماضي،وشيوعها بعد 2010 لتصبح ظاهرة اتعبت حتى الدولة في مكافحتها.

ونرى،أن شيوع الرشوة في دوائر الدولة العراقية يعزى لثلاثة اسباب:

الأول: شيوع الفساد

يعترف الجميع بشيوع الفساد في العراق، بمن فيهم (المرجعية الموقرة) التي وصفت كبار الحكام بأنهم (حيتان الفساد)،فيما اعترف السيد نوري المالكي بان (لديه ملفات للفساد لو كشفها لنقلب عاليها سافلها)..وما كشفها مع انه كان في حينها الرجل الأول في الدولة. وان الفساد تسبب بصرف أكثر من ترليون دولار أميركي، بين عامي 2003 و 2018 بحسب الخبير الاقتصادي لؤي الخطيب، ليصبح العراق ثاني افسد دولة في العالم واولها في حجم الأموال المسروقة باعتراف خبراء عالميين،وأن ما يسرق يقاس بالمليارات بحسب نائب رئيس لجنة النزاهة الأسبق موسى فرج.

ومن متابعتنا للعملية السياسية في العراق بعد تشكيل اول حكومة عام 2006، توصلنا الى نظرية نفسية كانت بالنص:

(اذا تساهل القانون في محاسبة فعل كان يعدّ خزيا،وغض الآخرون الطرف عنه او وجدوا له تبريرا..شاع في المجتمع ولم يعدّ خزيا كما كان..الفساد في العراق مثالا).

ما يعني أن الفساد في العراق يشكل السبب الرئيس في وصول (الرشوة) الى ظاهرة بدوائر الدولة العراقية.

الثاني: غياب القائد القدوة

قل عن الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم ما شئت، لكن الجميع يعترف،بمن فيهم اعداؤه،بأنه كان نزيها. فالرجل كان ينام بغرفة في وزارة الدفاع،ولم يتقاض امتيازات،فاقتدى به وزراء حكومته والموظفون في دوائر الدولة، فيما الذين تولوا الحكم بعد 2003 استفردوا بالسلطة والثروة وسكنوا القصور، مع أنهم رجال دين وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)،وكان عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم).

وكان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة،ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته..مثال ذلك:ابراهيم كبة (اقتصاد)،محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب (شؤون اجتماعية)…نزيهة الدليمي(بلديات)..وهي اول وزيرة في تاريخ العراق. واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تاسست في زمنه..الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله،برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي..فأجابهم:(عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع)، فيما قادة الحكم الجدد اعتمدوا مبدأ المحاصصة والقرابة للتعيين في دوائر الدولة التي تقاسموها (عائليا) وكثير منهم لا يملك شهادة ولا مؤهل ما اثار الشعور بالحيف لدى موظفين مستقلين شكل عاملا لتعاطي الرشوة.

واذا كان الموظف قد فقد القدوة السياسية فانه فقد القدوة الدينية ايضا، اقبحها ان يرى في التلفزيون اثنين من المعممين يتهم احدهما الآخر بالفساد فيصل الى حوار مع نفسه (اذا صاحب العمامة صار فاسد..ظلت عليّ!).

الثالث:الفقر

يعدّ العراق البلد الأغنى في المنطقة..وأحد اغنى عشرة بلدان في العالم، ومع ذلك بلغ عدد من هم دون خط الفقر فيه اكثر من 13 مليون في سابقة ما حدثت بتاريخ العراق السياسي. وزادها مؤخرا ارتفاع سعر الدولار وغلاء المواد الاساسية وبالذات الغذائية منها..ليذكرنا الحال بمقولة ابي ذر الغفاري(عجبت لمن لا يجد قوت يومه ولم يخرج شاهرا سيفه)..وقد فعلوها من شباط 2011 الى كانون اول 2023، خرجوا في جميعها شاهرين علم الوطن،وما استجابوا لصرختهم..لتشكل مبررا للرشوة عند من اماتوا فيهم الضمير الأخلاقي والديني.

والحل؟!

واضح ان الحل يكون بمعالجة هذه الأسباب الثلاثة..وواضح ايضا ان الحكومة الحالية ليس بأمكانها حلها، وان السيد محمد شياع السوداني لو فكر في ذلك، فان عليه ان يتذكر سلفه السيد حيدر العبادي يوم كان رئيس وزراء ووعد بأنه سيضرب (الفساد بيد من حديد)،وأكد قائلا (يقتلوني..خل يقتلوني) وفي أقل من شهر تخلى عن وعده واعترف علنا..ان الفاسدين يمتلكون المال والسلاح والفضائيات..انهم مافيا.

وتلك هي الحقيقة..انهم مافيا و..دولة عميقة..بيدها الأمور،الآن و..لغد بعيد!..ما لم يتوحد ملايين الجياع في ثورة سلمية.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 31-01-2023     عدد القراء :  1578       عدد التعليقات : 0