أثار انتقاد الإعلامي عدنان الطائي، مقدم البرنامج الشهير في محطة "يو تي في" التلفزيونية، للرادود الحسيني المعروف باسم الكربلائي، بسبب وصف الأخير، في قصيدة له، لأصحاب النبي محمد بأنهم ليسوا صحابة بل عصابة، أثار الكثير من الجدل تأييداً للطائي أو دعماً للكربلائي. جاء انتقاد الطائي في سياق حملة الاعتقالات المتصاعدة التي تشنها السلطات العراقية ضد من تطلق عليهم منتجي "المحتوى الهابط" أو السيّئ وذلك حفاظاً على الذوق العام بحسب البيانات الرسمية، الحكومية والقضائية، التي اعتبرت نشر هذا المحتوى في الحيز العام تهديداً للمجتمع وقيمه الأخلاقية من دون أن تحدد هذه البيانات معايير الذوق العام والمحتوى الهابط وكيف يقود هذا المحتوى إلى تهديد المجتمع.
كان سؤال الطائي يقوم على مقارنة بسيطة ومباشرة ومنطقية: أيهما يهدد المجتمع، ما ينشده الكربلائي بخصوص شيطنة الصحابة، الذين يُنظر لهم بإكبار عال من السنّة العراقيين، ما يساهم بالتحريض الطائفي الممنوع قانوناً في العراق ويقود صاحبه إلى السجن، أم "المحتوى الهابط" الفقير فنياً وجمالياً باتفاق لكنه لا ينطوي على التحريض ضد عراقيين آخرين؟
لا يحتاج الأمر الكثير من التقصي القانوني لاكتشاف أن ما ذكره الكربلائي يخالف القانون في العراق ويعتبر عملاً جرمياً يستحق العقوبة عليه٬ خصوصاً في بلد عانى كثيراً من التحريض والعنف الطائفيين. فقانون العقوبات العراقي 111 لعام 1969 يُجرّم على نحو صريح في مادتين منه، 200 و372، التحريض الطائفي ويضع عقوبتين مختلفتين بالسجن 3 و 7 سنوات كحد أقصى. يُطبق هذا القانون نفسه على نحو غامض ومبالغ فيه بحق منتجي "المحتوى الهابط" فيما مواده الصريحة التي تنطبق بوضوح مباشر على الكربلائي لم تجد طريقها للتطبيق.
بعيداً عن المعايير المزدوجة والمتعسفة السائدة في العراق في سياقات كثيرة، كان أيضاً طبيعياً، بل متوقعاً تماماً، أن لا تطبق السلطات الحكومية أو القضائية القانون بحق الكربلائي لسبب بسيط وواضح: ما أنشده الرجل يمثل جزءاً مألوفاً ومعروفاً من العقيدة المذهبية الشيعية التقليدية فيما تحكم البلد منذ 2005، بشراكات جانبية مع الآخرين من الأكراد والسنّة، أحزابُ الإسلام السياسي الشيعي المؤمنة تماماً بهذه العقيدة والطامحة سابقاً بتطبيقها عبر مفهوم الحكم الإسلامي الذي اضطرت للتخلي عنه، كهدف معلن على الأقل، في عراق ما بعد 2003. بحسب هذه العقيدة، التي بلورت على نحو واضح ومتماسك في القرنين الرابع والخامس الهجريين، يُعتبر معظم صحابة النبي، خصوصاً من المهاجرين، متآمرين ضد الإمام علي بن أبي طالب بسبب تواطئهم المفترض على حرمانه من الخلافة المنصوصة عليه إلهياً والمنقولة نبوياً. بهذا المعنى يكون هؤلاء الصحابة قد خالفوا عمداً أوامر النبي محمد التي تلقاها من الله كما تشير الى ذلك نظرية الإمامة الشيعية التي تعتبر الحجر الأساس في تشكل المذهب الشيعي واستمراره.
خارج إطار تعليم العقيدة للمنتمين إليها والراغبين فيها والجدالات الأكاديمية بخصوصها، نقاش العقائد ليس مجدياً وفي الغالب يؤدي إلى التناحر والغضب بين المختلفين لأن العقائد المختلفة في الإسلام قديمة، وهي عموماً ثابتة بعد تحولها الى رؤى فقهية تعيشها الجماعات المؤمنة بها عبر الزمن لتصبح هويات راسخة لهذه الجماعات، وبالتالي يصبح نقدها شأناً حساساً وانتقاصاً من هوية الجماعة. في آخر المطاف لا يغير النقاش اللاحق لتشكل العقيدة بعد تحولها الى هوية تعريفية للمجموعة أي شيء من محتوى العقيدة، فتشكيل هذا المحتوى هو الامتياز الحصري للمؤسسين الذين غادروا الحياة قبل قرون طويلة. من هنا، اختفت نقاشات العقيدة في الحيز العام في الأنظمة الديموقراطية، لتتحول العقيدة إلى شأن فردي وروحي، يعيشها الفرد المؤمن كجزء من حق أصيل بحرية التعبير في إطار المساواة الكاملة بين المواطنين.
لكن عراقياً الأمر ليس هكذا لسوء الحظ، فالعقيدة وممارستها في العلن وتمثلها في الحياة العامة والترويج لها تحولت إلى امتياز جماعي للأغلبية بالرغم من الجوانب التمييزية فيها. كل العقائد الدينية تمييزية بطبيعتها، إذ هي تؤمن أن معتنقيها على صواب فيما الآخرون من معتنقي العقائد الأخرى أو الذين بدون عقيدة على خطأ. العقيدة الشيعية تمييزية أيضاً في هذا الإطار، فعلى أساس مبادئ هذه العقيدة يُعتبر الشيعة الاثنا عشرية هم وحدهم المؤمنون فيما يُعتبر السنّة مخالفين. المخالفة درجة أدنى من الإيمان وترتب حقوقاً أقل من حقوق المؤمن في مناحي الحياة المختلفة فيما يحصل غير المسلمين في إطار هذه العقيدة، على حقوق أدنى بكثير من حقوق المخالفين. تفاصيل هذه الامتيازات والحقوق التفاضلية مدونة بدقة في كتب الفقه الشيعية. من الطبيعي أن تحتوي العقائد التي نشأت في أزمنة تمييزية قديمة سابقة لبروز الحداثة ومفاهيم المساواة وحقوق الإنسان التي لا تُقيِّم المرء على أساس انتمائه الديني وإنما على أساس كونه بشراً بالولادة٬ على قيم اشكالية تتمحور حول التمييز الديني٬ لكن ما هو غير طبيعي أن تجد هذه القيم مكاناً لها في الحيز العام باسم حرية المعتقد أو التعبير.
في الآونة الأخيرة انتشر فيديو لرجل دين شيعي عراقي، السيد صباح شبر، ذكر فيه على نحو صريح أن من يرفض اعتناق الإسلام، في إطار الجهاد، يستحق الجزية في حال كونه مسيحياً أو يهودياً والقتل إذا كان غير ذلك. في فيديو آخر له، أشار الرجل بصراحته المعروفة أن الحكم الديني هو قتل معتنقي الشيوعية مباشرةً! تمضي مثل هذه الاعلانات المقلقة والمخالفة للقانون والمحرضة باسم العقيدة من دون منع أو عقوبة عليها بسبب تحريضها الصريح ضد عراقيين آخرين، فيما تنشغل السلطات بتعقب من تعتبرهم من ذوي "المحتوى الهابط".
لا تكمن المشكلة فقط في وجود مثل هذا الخطاب التمييزي والعنيف في العقيدة الشيعية، فالعقيدة السنّية بنسخها السلفية وغيرها، تنطوي على خطابات كهذه لا تقل قلقاً ونقضاً للقانون من نظيرتها الشيعية، وإنما أيضاً في الطبيعة الاعتذارية المضمرة في الرد من جانب ساسة الإسلام السياسي الشيعي ومؤيديهم. خلاصة هذا الرد هو ادعاء غياب الحكمة لدى مطلقي هذا الخطاب في الزمان والمكان الخطأ، وليس الاعتراض على أصل الخطاب ومحتواه وإخضاع المروجين له لحكم القانون. هو اعتراض، منشأه الإحساس بالحرج، على التوقيت والكيفية وليس رفضاً للمحتوى نفسه. ستبقى هذه الازدواجية ترافق تجربة الحكم في العراق الذي تتصدره أحزاب الإسلام السياسي التي ترفض التصالح مع الديموقراطية، بقيم المساواة والفردانية الأساسية فيها، فيما هي تحكم باسم الديموقراطية في إطار دستور نص على أنه ديموقراطي.
انتشر مؤخراً تسجيل فيديوي لرجل دين شيعي عراقي معروف يتحدث فيه لجمهوره عن الاشتراطات الفقهية التي على أساسها يستطيع السيد المالك لعبدة أن يضاجعها حتى وإن كانت متزوجة من عبد يمتلكه هو أيضاً. في أثناء حديثه٬ كان الرجل يوجه كلامه إلى الجمهور الجالس أمامه بصيغة المخاطب ليقول "عندك عبدة وعندك عبد٬ العبدة زوجتها من العبد٬ اثنينهم الزوج والزوجة عبيد لك. هنا تستطيع أن تقول للعبد توقف عنها٬ لا تقربها…".
كان لافتاً أن الرجل المعمم كان يناقش بجدية واهتمام وتفصيل موضوعاً ينتمي لتاريخ ارستقراطي في أزمنة بعيدة عن زمن الجمهور الذي يخاطبه. غياب الوعي بالحاضر كان واضحاً في نبرة الرجل واختياره للموضوع ليس فقط لأن القانون في البلد حرم العبودية ومنعَ وجود سادة وعبيد بالمعنى القانوني أو العرفي٬ بل أيضاً لأن هموم الجمهور المُخاطب٬ الفقير أو المحدود الدخل في أغلبه٬ لا تتعلق بامتلاك العبيد وكيفية تعامل السيد معهم٬ بل بهموم حديثة ترتبط بالفقر والبطالة وانقطاع الكهرباء وبؤس الخدمات والبيروقراطية المرهقة التي تعتاش على فساد يومي لموظفين صغار وكبار وسواها كثير. حتى باللغة الفقهية السائدة لا تُعتبر المواضيع التي أثارها الرجل من مسائل الابتلاء٬ بمعنى أن الفرد المؤمن في عراق اليوم لا يواجهها في حياته ولا يحتاج أن يعرف الحكم الفقهي للتعاطي معها.
لا يمثل تعامل الرجل مع مثل هذه المسائل البعيدة عن هموم العصر والمكان الحاليين استثناءً٬ فرجال دين آخرون شيعة يتناولون اموراً أخرى تقليدية شبيهة وتعود لزمن قديم وبعيدة عن الوقائع والمشاكل الحالية للمجتمع مثل أحكام نشر الدين بقوة السلاح وكيفية التعاطي مع "الكفار" بإزاء "أهل الكتاب" كدافعي جزية٬ وسواها من مسائل الفقه التقليدية التي ما عادت جزءاً من الحياة اليومية للمؤمن الشيعي. تقوم هذه المسائل وطريقة تناولها على مركزية العقيدة في فهم الأشخاص والمجتمعات وتصنيفها وكيفية التعاطي معها بوصفها أنواعاً مختلفة من "الآخر" الذي ينبغي الحذر منه أو تنظيم العلاقة معه على أسس تحفظ للذات هويتها النقية وتميزها المتفوق على هذا الآخر.
ينتمي هذا الخطاب الديني٬ بالإصرار المرتبط بتكراره في سياقات عامة مختلفة وبالارتياح وحس الطبيعية الذي يبدو على الذين يتناولونه ويروجون له٬ إلى هيمنة الماضوية على التشيع العراقي الذي يتضمن الحركات السياسية والمؤسسات الدينية الشيعية التي تظهر الماضوية في سلوكها وخطابها بمقادير مختلفة٬ لكن تبقى هذه المقادير تأسيسية وتعريفية في هوية هذه الحركات والمؤسسات. تشير الماضوية إلى زمن ماض قديم٬ لكنه صحيح معرفياً وأخلاقياً٬ فيه تأسست القيم الصحيحة وعاش فيه الآباء المؤسسون أو المروجون لهذه القيم والذين مثلوها في الحيز العام ودعوا الآخرين الى تمثلها في سلوكهم وخطابهم وقاتلوا أحياناً دفاعاً عنها حتى الموت. يصبح هذا الزمن ذهبياً أو مقدساً٬ من دون أن تشمل هذه القداسة كل ذلك الزمن وأشخاصه وأحداثه٬ وإنما فقط المرتبط بهذه القيم والدفاع عنها. في ما بعد٬ يتحول هذا الزمن المقدس٬ بأشخاصه وأحداثه وقيمه المنتقاة٬ إلى زمن تعريفي ومعياري تُقاس به كل الأزمنة التي تأتي بعده إذ تصبح كل هذه الأزمنة تابعة له وتفقد استقلاليتها وحقها بصناعة قيم أخرى مختلفة أو مناقضة لقيم الزمن المقدس، لينحصر دورها وأهميتها وقيمتها بقدرتها على تمثل قيم ذلك الزمن في وقائعها وأشخاصها وترتيباتها للحياة. كل الأزمنة السابقة أو اللاحقة للزمن المقدس هي أزمنة هامشية وعرضية بإزاء الزمن المركزي المقدس.
يبدأ الزمن المقدس الشيعي بعصر النبي محمد٬ بالفهم الشيعي التقليدي له٬ ليغطي زمن الأئمة الإثني عشر وينتهي بما يعرف بعصر الغيبة في العقد الثالث من القرن الرابع الهجري باختفاء الإمام الثاني عشر في سرداب في سامراء ليعود في آخر الزمان٬ بحسب العقيدة الشيعية. ولهذا مثلاً يغيب تقريباً في الخطاب والمعرفة الشيعية المذهبية والتقليدية الوعي بعصور التاريخ السابقة أو اللاحقة للزمن المقدس الشيعي٬ كما في الأزمنة السومرية والأكدية والأشورية أو العثمانية أو الملكية العراقية. كما تختفي هذه الأزمنة في خطاب الحركات السياسية والمؤسسات الدينية الشيعية إلا في المناسبات العابرة والاستشهادات السريعة التي تؤكد قيمة ما من قيم الزمن الشيعي المقدس أو مناقضة لها في إطار تأكيد مركزية هذه القيم وشدة العداء لها من الآخرين.
تمثلات الزمن الشيعي المقدس كثيرة في عراق ما بعد 2003، يجدها المتتبع في فهم الكثير من الشيعة العاديين لأنفسهم وللعالم الذي حولهم٬ كما في المعرفة التفصيلية والحسية بحوادث قبل 1400 عام والاستشهاد بها في محاولة فهم الحاضر وعيشه وغياب ولو معرفة عابرة بحوادث قبل 30 أو 40 عاماً متعلقة بقصة هذا البلد، وتتصل على نحو مباشر بما وصل إليه اليوم. في بعض الأحيان كان يصل الأمر الى محاولة إعادة عيش هذا الزمن المقدس. في إحدى المحافظات العراقية مثلاً٬ نُظمت محكمة رمزية٬ بقاض وادعاء ومتهم ودفاع٬ لتصدر حكماً على جريمة حصلت في أثناء الزمن المقدس٬ قبل 1300 عام. تتعلق الجريمة بقرار الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قتل وصلب زيد بن علي٬ نجل الإمام الشيعي الرابع٬ زين العابدين بن الحسين. حضرت وسائل إعلام هذه المحاكمة ونقلتها للجمهور.
تقع مثل هذه الأفعال الماضوية ضمن حق المرء بحرية التعبير٬ التي تتضمن ممارسة معتقده الديني في الحيز العام ما دام لا يتجاوز على حريات الآخرين وحقوقهم في الحيز نفسه. مثل هذه الأفعال ليست مقلقة أو خطرة بل هي دالة على وعي معين يرتبط بأولوية الماضي على الحاضر في حياة المؤمن العادي. لكن المقلق والخطر هو عندما تصبح الماضوية سلوكاً وخطاباً للدولة والقائمين عليها. عندما وقف رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في كانون الأول (ديسمبر) 2013 في محافظة كربلاء ليعلن من هناك أن الصراع الذي يدور في العراق حينها٬ خصوصاً على خلفية الاحتجاجات في المناطق الغربية٬ التي كثيراً ما يُشار إليها بوصفها "احتجاجات سنية"، هي في حقيقتها تمثلاً آخرَ للصراع الدائم بين الحسين ويزيد في عام 680 ميلادية٬ وأن أحفادهما اليوم يتصارعون في العراق في عام 2013! استعار المالكي حينها لحظة من الزمن المقدس الشيعي وفرضها٬ بحكم منصبه كرئيس للوزراء٬ على كل المجتمع في البلد كسبيل لفهم الذي يجري٬ حتى وإن كانت نتائج هذا الفهم وتطبيقاته كارثية على كل العراقيين.
رغم أن الماضوية حاضرة في سلوك مجاميع دينية أخرى كالسلفية٬ فإنها تصبح خطراً حقيقياً على السلم الأهلي في المجتمع عندما يتبناها صناع القرار الرسميون سواء على نحو معلن أو مضمر. هذه إحدى مشاكل العراق العميقة٬ إذ يمسك بالحكم ساسة من الإسلام السياسي الشيعي٬ يتمسكون على نحو غير معلن بالماضوية المذهبية الشيعية٬ فيما هم يديرون نظاماً سياسياً يقوم على الحداثة في عالم إقليمي ودولي تحركه المصالح المرتبطة بالمستقبل وليس الولاء لأزمنة مقدسة لا إمكانية لعيشها أو تمثلها في الحاضر.