تمر هذه الأيام الذكرى العشرون لأحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وإسقاط النظام البعثي، الذي كان نفسه سلاح دمار شامل للعراقيين بقمعه وحروبه الداخلية والخارجية وتفريطه بالسيادة الوطنية وأراض ومياه عراقية، ومسؤوليته برعونته عن حصار ظالم دفع العراقيون ولازالوا ثمنه. وقد هيأت الولايات المتحدة بسلسلة من الأكاذيب الأجواء لبدء حربها على العراق، حين وقف وزير خارجيتها كولن باول في مجلس الأمن الدولي حاملا انبوبة صغيرة على أنّها جزء من برنامج كيمياوي يقوم العراق بتطويره! وما أن أنتهت الحرب وليومنا هذا لم تستطع الولايات المتحدة ومعها حلفائها من تقديم أدلّة على أمتلاك العراق لأسلحة نووية وبايولوجية وكيمياوية!
لو تركنا أسباب الغزو والحرب والأحتلال جانبا، وعدنا الى تصريحات المسؤولين الأمريكان ما بعد حرب تحرير الكويت والحصار الذي تلاه وحرب ما سميّت بحرية العراق، لصدمتنا تصريحاتهم حولها. فوزيرة الخارجية مادلين اولبرايت قالت في معرض ردّها على سؤال من الصحافية ايزابيل كومار أواخر نيسان/ ابريل 2016، حول قولها من أنّ " قتل خمسمائة الف طفل عراقي كان أمرا يستحق ذلك"؟ لتجيب قائلة : لقد سبق لي الإعتراف بأن هذا هو أغبى شيء قلته وأعتذرت عن ذلك، ولكن يبدو أن هناك أناسا يريدون دائما العودة إلى هذه المسألة. لقد غاب عن بال السيدة اولبرايت من أننا نتحدث عن جريمة قتل خمسمائة الف طفل وليس عن خمسمائة الف قطعة شوكلاتة أذابتها شمس بغداد الحارقة، قبل أن تصل الى بطون أطفال العراق المحاصرين كهدايا أمريكية لنقبل كعراقيين ناهيك عن الذين يمتلكون ضمائر حيّة أعتذارها!
لقد قُتل الكثير من المدنيين على يد جنود امريكان وبريطانيين وغيرهم من القوات الغازية، كما ووصلت أهانة القوات الأمريكية للعراقيين الى حد الوقاحة والأستخفاف. وبعد مرور سنوات حسب تقرير للبي بي سي نيوز العربية نشرته بمناسبة الذكرى العشرين لبدء الحرب، قالت فيه لقد " أدرك الرأي العام الدولي أن تلك الحرب كانت خطأ جسيما"، ومن هؤلاء السناتور الجمهوري جون ماكين، الذي كان من أشد المدافعين عن "تحرير العراق" لسنوات، والذي تراجع في مذكراته التي نشرها قبل وفاته العام 2018 عن موقفه فكتب قائلا: " لا يمكن الحكم على تلك الحرب، بتكلفتها العسكرية والانسانية، سوى أنها خطأ... خطأ خطير للغاية، وعليَ أن أتحمل نصيبي من اللوم على ذلك ". أنّه ليس بخطأ أيّها السيّد ماكين لتُلام عليه، بل جريمة تضاف الى سلسلة الجرائم التي أرتكبتموها والغرب بحق شعوب وبلدان عديدة في هذا العالم ويجب محاسبتك وبلادك عليه. وعلى سبيل المثال فأنّ قوات بلادكم ومعها القوات البريطانية أستخدمت ما بين 320 – 800 طن متري من اليورانيوم المنضّب ضد العراقيين في حرب تحرير الكويت فقط، وعليكم أن تكتشفوا بأنفسكم حجم الموت وتشوّهات الأجنة والتربة والمياه التي خلّفتها هذه القذائف في بلادنا وأثارها الواضحة للعيان لليوم!
بعد هذه المقدمة التي لابدّ منها، نعود الى "المكاسب" التي حققتها الحرب وفق السيّد بول بريمر الذي عيّنته واشنطن حاكما مدنيا في العراق، ففي مقابلة متلفزة مع محطة سكاي نيوز بالعربية تناول السيّد بريمر جملة أمور معتبرا أنّها كانت أيجابية وساهمت في تحوّل العراق الى دولة ديموقراطية!! قبل تناول ما حققته الحرب من "مكاسب" للعراق وشعبه، علينا تذكير السيّد بريمر من أن بلاده كتبت في العام 1947 بشخص الجنرال ماكارثر الدستور الياباني إثر هزيمة اليابان في الحرب، ومن خلال بنود هذا الدستور وصلت الحياة السياسية في اليابان الى درجة من النضج الديموقراطي والأستقرار السياسي وهي التي أستقبلت أوّل قنبلتين ذريتين على أراضيها! أمّا في العراق فقد ترك الأمريكان متعمّدين كتابة دستور البلاد الى القوى السياسية الطائفية القومية، وكان أعضاء لجنة كتابة الدستور العراقي تتكون من شخصيات سياسية ودينية، ومنهم السيد أحمد الصافي ممثل السيد السيستاني ومعه عدد من رجالات الدين والسياسة الشيعة وثلاث أو أربع قضاة من قوام 71 عضوا في تلك اللجنة، وعلينا أن نعرف طبيعة الدستور الذي يخرج من هكذا مطبخ! وإن كان الدستور الياباني ضَمَنَ استقرار البلاد وتقدمها، وكان اساسا لتقدم اجتماعي واقتصادي وصناعي اوصل اليابان الى مقدمة دول العالم، فأن دستورنا ومن ديباجته وقبل الدخول في مضمونه وبنوده، ضَمَنَ عدم الأستقرار السياسي بالبلاد، وكان ولا يزال أساسا لتخلّف العراق اجتماعيا وأقتصاديا وصناعيا وزراعيا وتعليميا، ولتكن بلادنا في مقدمة الدول الفاسدة والمتخلفة.
السيّد بريمر قال في لقائه التلفزيوني من أنّ الناتج المحلي للبلاد اليوم يعادل خمسة أضعاف ما كان عليه في العام 2003 ، وأنتاج البترول تضاعف هو الآخر لخمسة أضعاف ما كان عليه في نفس السنة. ولم يتطرق السيد بريمر الى زيادة العشوائيات في المدن، وأزدياد نسبة الفقر والبطالة، وتخلّف الصناعة والزراعة وسوء أدارة الدولة لملفّات المياه والمناخ والتعليم والصحة والكهرباء والخدمات الأساسية الأخرى التي أزدادت طرديا مع ما ذكره من أرقام، وهذا يعني أنّ الزيادة في الناتج المحلي والذي جاء لتضاعف انتاج النفط وصعود اسعاره، قد التهمه الفساد الحكومي ولم يستفاد منها الشعب العراقي. وهذا يعني أيضا أنّ النظام الحالي هو أستمرار للنظام السابق كون نهج النظامين واحد، بغضّ النظر عن طبيعتيهما السياسيتين.
يستمر بريمر في حديثه ليقول من أن الديموقراطية في العراق لم يشهدها أي بلد عربي آخر، لكنّ ما فات السيد بريمر هو أننا أكثر الدول العربية تقريبا في الفساد والأمية، ومصادرة الحريات حتى تلك التي نصّ عليها الدستور. ويبدو أنّ السيد بريمر وهو يحاول تجميل الوجه القبيح والبشع للأحتلال وطبيعة سلطة المحاصصة، يعمل على القفز على مبدأ دستوري يجب أن يتم تعديله ليحبو العراق نحو الديموقراطية ويمارسها بشكل حقيقي. ولا نظن من أنّ عدم حسم نقطة تحديد الكتلة الأكبر الفائزة بالأنتخابات التي يقع على عاتقها تشكيل الحكومة، وترك الأمر للقضاء المسيّس وسطوة المال والميليشيات لحسمه، تعتبر شيئا من الديموقراطية وهي تقصي من تأتي به صناديق الأقتراع لصالح جهة خسرتها.
لقد تحررنا أيها السيد بريمر من سطوة نظام قمعي وحالة حرب مستمرة لعقود، لنسقط في مستنقع نظام محاصصاتي فاسد وحرب أهلية (طائفية) وفوضى، تحررنا من نظام يملك ميليشيا أجرامية كميليشيا صدام، لنسقط أسارى سلطة تمتلك العشرات من الميليشيات، تحررنا من نظام دموي يخطف المناهضين له من الشوارع ويغيّبهم، لنسقط في فخ نظام" ديموقراطي" يخطف الناشطين الذين يواجهون نهجه من الشوارع ويغيّبهم، تحررنا من نظام كان يهجّر مواطنيه الى خارج الحدود لنقع فريسة نظام يعيش عشرات الآلاف من مواطنيه نازحين في بلدهم، تحررنا من نظام تسرق فيه عائلة صدام حسين وبعض المقربين منها عشرات المليارات من الدولارات ، لنسقط في بحر من اللصوص سرقوا مئات المليارات من الدولارات.
النظام السياسي الذي جاء به المحتل الأمريكي في نهجه، هو أستمرار لنهج نظام البعثي في تعامله مع قضايا شعبنا ووطننا. وما عجز النظام البعثي عن أنجازه خلال ما يقارب الأربعة عقود من حكمه الكارثي، أنجزه النظام الحالي في عقدين من الزمن، والأنجاز هنا هو تدمير البلاد والنسيج الأجتماعي والتخلف الثقافي والفكري والتعليمي والصحّي. أننا بحاجة الى زلزال أقوى من زلزال تشرين ليأخذ على عاتقه مهمة أعادة بناء البلاد على أسس ديموقراطية حقيقية بعيدا عن نهج المحاصصة والفساد، أننا بحاجة الى نظام علماني ديموقراطي حقيقي، والّا فأن الأزمات التي نعيشها ستتحول الى أزمات مستدامة لتهدّد وجود الدولة نفسها.