الأعراف التي تحكم المجتمع تسترشد بها المحاكم عند عدم وجود نص يمكن تطبيقه، ولم يزل مجتمعنا العراقي ينظر بعين الخجل والاحتقار للمرتشي أو الفاسد بشكل عام، وكان المشرع العراقي قد التفت إلى ناحية مهمة حين أضفى وصف الجرائم المخلة بالشرف على جرائم الاختلاس وخيانة الأمانة والتزوير والسرقة والمحتال، ومهما كان مركزه الوظيفي او السياسي، ومهما حاول التباهي بهذا المركز أو بالأموال التي استحوذ عليها أو بشراء المكانة الاجتماعية المؤقتة او بالفرص التي حصل عليها، إلا أن عرفا لم يزل دفينا في ضمير أهل العراق بأن أمثال هذا سيكنسهم التاريخ والزمان لتصبح أسماؤهم وسيرتهم في مزبلة التاريخ، وسيخجل حتى أحفادهم من وزر أعمالهم وسوء سيرتهم .
ومحاربة الفساد المستشري ومخطط مواجهة الفاسدين لا يكون بتقديم عدد من التابعين والسراق الصغار، فعلى مدى فترة زمنية غير قصيرة والعراق منهوب، وبالرغم من الإيرادات الخيالية التي دخلت إلى حسابه لم يلمس المواطن العراقي أثرا لبناء مستشفى او مستوصف، ولم ندخل مدرسة تليق بأطفالنا واولادنا، ولا مواصلات تليق بتاريخ العراق، ولا جسرا ولا معبرا، ولا طرقا تخفف من زحمة المواصلات وتنظم حالات الاختناق في الطرق، ولا مشاريع سكنية للفقراء، ولا تحسين لدخل الفرد، ولا اهتماما حقيقيا بالمتقاعدين بل لا اهتمام بكل العاملين في الحكومة وفي القطاع الخاص، وتعددت السلبيات التي نقشها الزمن على صفحة الحكومات البائسة التي حكمت العراق بعد التغيير ورحيل الدكتاتورية .
وبين فترة وأخرى تبرز للواجهة فقاعة تنشر غسيل عدد من الفاسدين، يتم حصر الاتهامات والاشارة إلى أسماء متهمين لهم أدوار ثانوية وواجهات لعمليات سرقة واختلاس تديرها رؤوس كبيرة وشخصيات سياسية، وتنكيلا بحقوق الشعب العراقي يتم تمهيد الطريق لخروج هذه الأسماء خارج العراق، ومن ثم التكتم على القضايا المثارة وحفظها في ملفات النسيان، عن طريق فقاعة أخرى يتم إلفات نظر الناس عنها، وتبقى الحلقة تدور فتنسى الناس الأسماء الأولى والقضايا التي سبق إثارتها، ويعود الحال إلى ما كان عليه .
في مثل هذه القضايا التي تهم الراي العام ويكون المال العام محورها الجنائي يفترض ان يكون التحقيق فيها عميقا ودقيقا، يكشف بوضوح أسماء المتهمين والمخططين والمشاركين والمستفيدين، ومن ثم تتم إحالة الجميع على القضاء ليصدر أحكامه العادلة، بعيدا عن الضغوط والتدخلات السياسية، وان تشمل الأحكام مصادرة كل حصيلة تلك الأموال المسروقة او المختلسة او نتيجة الاحتيال، وان يتم تطبيق الظروف المشددة في الأحكام التي تصدر بحقهم، وان لا يتم شمولها بأي شكل من الاشكال بقرارات العفو، وأن نتعرف بالأسماء والصور على المتهمين الذين تمت إدانتهم والاحكام التي صدرت بحقهم، وان تنشر تلك الاحكام بعد اكتسابها الدرجة القطعية في الصحف ووسائل الاعلام الأخرى ليكونوا عبرة لغيرهم ممن تسول لهم انفسهم سرقة مال العراقيين .
محاربة الفساد لا يكون بالخطابات ولا بالتمني، وكل حكومة تتسلم ملف الحكم في العراق مسؤولة مسؤولية مباشرة عن ملفات الفساد التي وقعت خلال فترة عملها، وعليها تبعات الأفعال المخالفة للقانون، وملاحقة المتهمين أينما يكونوا، وأن يصحو ضمير بعض العاملين في الدولة للوقوف بوجه الفاسد ومنعه من التملص والهروب، وأن تتم محاصرة أمثال هؤلاء، وأن لا نسمع تبريرا أو توجهات لإصدار مراسيم جمهورية للعفو عنهم بشكل سري ومخجل، وأن لا يتم صرف النظر عن متابعتهم، وأن لا تبقى صفحة الفساد قوية ومسنودة من أحزاب وشخصيات متسترة بالفاسدين من خلال حصصها المضمونة، وكلنا بحاجة ماسة لأن نطمئن أن تتوقف النسبة التصاعدية لأعمال شبكات الفساد، فالضرر الحاصل بالعراق اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا كبيرا ومؤثرا، وأن لا يبقى احترام وتقدير لمثل هؤلاء، فقد تكررت العقود الوهمية والشركات الوهمية والنسب التي يتقاضاها الفاسد من الشركات مما يضعف ليس فقط هيبة الدولة، انما يضعف ثقة الناس بالحكومات وبالأحزاب السياسية المشاركة بالفساد أو التي تحمي الفاسدين.
محاربة الفساد لا تتطلب موقفا شجاعا في مواجهة جيش وشبكات الفساد فقط انما يتطلب الأمر موقفا وطنيا وضميرا عراقيا مسنودا من جماهير الفقراء والمعدمين وأصحاب الضمائر الحية للتخلص من آفة الفساد وشبكات الفاسدين.