كان يفترض ان تكون صناعة الادوية في العراق مرتبطة باهتمام الدولة بصحة مواطنيها. إذ ان بعض بلدان العالم وقد اقامت صناعات دوائية حكومية متطورة لخدمة مواطنيها.
العراق الذي كان رائدا في الصناعات الدوائية كان قد انشأ في ستينات القرن الماضي الشركة العامة لصناعة الأدوية والمستلزمات الطبية في سامراء. وكانت من أكبر منتجي الدواء بالعراق. لاحقا جرى انشاء الشركة العامة لصناعة الأدوية والمستلزمات الطبية في نينوى التي تأسست عام 2002، وهما تابعتان لوزارة الصناعة والمعادن، وهذا فضلاً عن عشرات الشركات والمعامل الدوائية الاهلية متباينة الأحجام والقدرات.
بعد سقوط النظام السابق صار التوجه الجديد والمستهجن بنفس الوقت هو التقليل من حصة القطاع العام لصالح دعم القطاع المحلي الخاص. وكان يمكن للقطاع الخاص المساهمة في توفير الادوية الى جانب قطاع الدولة العام الذي ستكون له حصة السوق الاولى. إذ لا يجوز وضع صناعة الدواء باكملها بيد القطاع التجاري الخاص. وإلا فالنتيجة التي نراها هي عجز هذا القطاع عن تلبية الحاجات الدوائية حيث فتح باب الاستيراد لتعويض النقص الحاصل !! فحسب آخر احصائية للرابطة العراقية لمنتجي الادوية قبل ثلاث سنوات لا تؤمن معامل الدولة والقطاع الخاص سوية إلا سبعة بالمئة فقط من حاجة البلد. وهي نسبة وجدنا تأكيدها لدى محمد شيرخان المتحدث الرسمي لنقابة صيادلة العراق. وباقي الارقام الحكومية المعلنة من طراز 10 و 20 بالمئة هي ارقام مدورة ومبالغات للتغطية على الرأي العام بشأن الفشل الذريع. وهذه النسبة الضئيلة تشكل فضيحة كبرى. فبعد 20 عاما على التغيير لا يبدو على قطاع صناعة الادوية الخاص في العراق النجاح في توسيع حصته لخدمة البلد. فعلى سبيل المقارنة فقد تمكنت كوبا الدولة الشيوعية الفقيرة من بناء صناعة دوائية حكومية متقدمة وصارت تنتج الادوية وتوفرها لمواطنيها بعشر ثمن مثيلاتها المتوفرة لدى جارتها الشمالية الولايات المتحدة الامريكية. فكيف نجحت كوبا يا ترى وفشل العراق ؟
لم تكن مصانع الادوية حتى خلال فترة النظام السابق تؤمن كامل حاجة البلد. فشركة ادوية سامراء كانت في السبعينات تؤمن ربع حاجة العراق فقط من الادوية. بيد ان الفساد السياسي والاقتصادي وتناقص التمويل الضروري لمراعاة الزيادة في الاحتياجات قد ادوا الى التراجع الى النسبة الضئيلة اعلاه. الآن بعد التغيير وجدت فرصة لدى الدولة كي تقوم بتأمين كامل هذه الحاجة بطريق توسيع معاملها الحالية وبناء جديدة. فالدولة هي من يجب ان يؤمن الدواء لمواطنيها وباسعار مناسبة. بينما العكس هو ما نراه في السوق الآن حيث انه مغرق بادوية باهظة غالبها مستورد ومن مناشيء غير رصينة باعتراف الجميع. لذلك فيجب ان تعود الدولة لضمان حصول المواطن على ادوية امينة حيث اثبت القطاع الخاص والاستيراد فشلهما في توفيرها. ومع حاجة البلد الهائلة للادوية من المناشيء الرصينة لا المغشوشة تمثل النسبة المئوية اعلاه فشل قطاع الادوية الخاص قبل العام. وهذا مع محاولة الدولة نفسها دفع نفس قطاعها العام الى الفشل فالافلاس تمهيدا لبيعه. فقد وجدنا اخبارا مفادها ان إحدى حكوماتنا السابقة قد اتت بوفد إيراني مكونا من مستثمرين كبار زار الشركة وتفقد أجهزة المصنع، وآخر اردني لاحقا وذلك بهدف شراء شركة سامراء بأكملها. وهو امر ادى الى ارتفاع مناسيب الغضب لدى اهالي سامراء. ومحاولة بيع شركة سامراء للادوية يجب ان يفهم منه ان البديل اي القطاع الخاص المحلي لا الامكانية لديه ولا الخبرة للولوج بشكل كبير في مضمار صناعة الادوية الذي كان يغطيه معمل سامراء. وسيكون خطأ هائلا ترك امر انتاج الادوية التي يحتاجها البلد بيد هذا القطاع واي قطاع آخر غير وطني كما تضغط باتجاهه بعض المصالح المحلية والدولية. فالامر ليس مجرد مال، إنما هو مسؤولية. فصحة المواطنين ليست تجارة ومصدرا للارباح مثلما تدور حوله فكرة القطاع الخاص. فالادوية هي حق من حقوق الناس في بلدهم مثلما هو الماء والغذاء والكهرباء.
لعلم الجميع فلن تأتي ابدا شركة ادوية كبرى لتمنح شركة محلية عندنا رخصة لانتاج ادوية لعلاج الامراض العضال مثلا. فما يراد رؤية حصوله هو استمرار شراء هذه الادوية من الشركات الكبرى باثمان باهضة. وبسبب قوة شركات الادوية الدولية التي تتلقى الدعم من حكومات بلدانها فلابد ان يكون امر هذه الصناعة في بلدنا ايضا مسنودا وبقوة بدلا مما نراه الآن. على سبيل المثال فإن ادوية علاج السرطان وغيره من الامراض المستعصية يجري شراؤها باسعار باهظة من الخارج بينما كان يمكن توفيرها عن طريق القطاع العام باسعار مناسبة بطريق اجازات التصنيع. وهذا الى ان نتعلم تصنيعها بانفسنا. وهو ما لا يمكن توفيره إلا بظهير قوي يسند عملية التفاوض.
وايضا بطريق نفس هذه الاجازات يمكن تصنيع الادوية البيطرية وحتى تلك الخاصة بالجائحة التاجية بدلا من استيرادها. وتصنيعها محليا بطريق القطاع العام يمكن ان يساهم بتوفيرها في البلد باسعار مناسبة وكميات كافية بدلا من انتظارها من مناشئها. لكن يبدو ان حكوماتنا المهووسة بالقطاع الخاص تريد لهذا الاخير ان يستحوذ بامكاناته المحدودة على السوق باكمله. وتريد نفس هذه الحكومات من المواطنين الانتظار ربما الى ما لا نهاية حتى يستطيع قطاع الامكانيات المحدودة هذا من الوقوف على قدميه. وكان لابد من الاستفادة من الشراكات التي اقامها العراق في اوقات سابقة لتسهيل امر تصنيع الادوية. مثال هذا الاتحاد العربي لمنتجي الادوية والمستلزمات الطبية. وهي منظمة عربية انشئت منتصف الثمانينات كان هدفها تصنيع الادوية وتبادل الخبرات بين الدول العربية. إلا انه يبدو انه لم يرد الاستمرار بالعمل مع هذه المبادرة.
إن صناعة الادوية هي قطاع استراتيجي بالمطلق كونه يتعلق بحياة المواطنين مباشرة، فلا يجوز ان يقع بيد تجار الاستيراد او القطاع الخاص كما اسلفنا. إذ نقرأ في الاخبار بين الوقت والآخر عن حالات وفيات لمرضى بسبب من غلاء اثمان المستورد او عدم ملائمته او لكونه منتهي الصلاحية او عدم توفره اصلا. وهو ما يعني من بين ما يعنيه فشل القطاع الخاص مع الافشال الحكومي للآخر العام في صناعة الادوية. لذلك ولكي لا نعرض المواطنين الى هذه الاخطار نعيد التأكيد على ضرورة بقاء صناعة الادوية بيد الدولة. وإن كان لابد من تشريع قانون قيام الدولة بتأمين الدواء عن طريق صناعته بنفسها، فيمكن ايراد مادة فيه تفسح المجال للقطاع الخاص للمساهمة في هذه الصناعة.
لكل هذه الاسباب ننتظر من الحكومة تجديد معامل شركة ادوية سامراء واختها في نينوى الحكوميتين. وهو امر نشك بان اسباب تعطله هو ارادة حكومية لافشال الشركة مثلما اسلفنا تمهيدا لبيعها. فلابد من اعادة تأهيل هذه الشركة التي كانت تغطّي ولو جزءا من حاجة السوق المحلية في العراق لأكثر من أربعين عاماً بـ350 منتوجاً طبياً، وبكفاءة عالية تضاهي المناشئ العالمية من خلال الاجازة من الشركات المصنعة بداية، لتقوم وتغطي كامل احتياجات البلد من الادوية.