تساؤلات
هل الصحافة مهنة تخص فقط من يحمل هوية نقابة الصحفيين؟ وهل من كان اكاديميا او موظفا وله نشاط صحفي مميز ويكتب في صحف عراقية وعربية وعالمية لا يعدّ صحفيا؟ ولا يحق له الاحتفاء بعيد الصحافة؟ ولا من واجب نقابة الصحفيين تكريم من امضى نصف قرن يكتب في الصحافة، لأنه لا يحمل هوية نقابة الصحفيين؟! وهل ان الصحافة الورقية ستنقرض، وبومتها يموت الصحفي ايضا، والشاطر من يثبت وجودة في الأعلام الألكتروني؟.
تجربة نصف قرن
لا اتذكر متى بدأت اكتب في الصحافة، والفضل للصحفي الكبير الراحل(مظهر عارف) انه كتب في (12 / 7 / 2020) مقالة في الحوار المتمدن جاء فيها بالنص:(بدأت علاقتي الاخوية مع الدكتور العالم قاسم حسين صالح قبل ٤٠ عاماً عندما كان يزورنا في صحيفة "العراق " ككاتب وكصديق حميم لمديرتحرير الصحيفة الدكتور سمير خيري توفيق. كان قاسم انذاك مايزال يدرس في الجامعة،وكان سمير كذلك،ويتمتع كل واحد منهما بذكاء مفرط، وبروح شبابية وثابة، وبشجاعة رائعة رغم انهما لم يكونا يحملان العقيدة الفكرية والسياسية نفسها. فسمير كان بعثياً بينما كان قاسم يسارياً، ولكنهما كانا على اتفاق في الرؤية لحركة التاريخ وما هو حادث من تغيرات في هذا العالم في السياسة والاقتصاد والثقافة(.
هذا يعني أنني بدأت اكتب في الصحافة بداية سبعينيات القرن الماضي. وهنا تنشط ذاكرتي يوم اعلنت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون عن حاجتها الى مذيعين فتقدم اكثر من الف، اجتاز الاختبار عشرة كنت احدهم. ودخلنا دورة لثلاثة أشهر تلقينا فيها محاضرات نظرية وعملية في اللغة والصوت وفن الالقاء والدراما والتحرير الصحفي باشراف مدير برامج اذاعة صوت العرب (سعد لبيب) وصحفي مصري (كرم شلبي) وسعاد الهرمزي،بدري حسون فريد،عبد المرسل الزيدي،مالك المطلبي،وثامر مهدي.
الصحفي..يتعلم
تعود اول تجربة ناضجة لي في الصحافة الى سبعينيات القرن الماضي. يومها كانت تعدّ مجلة (الأذاعة والتلفزيون) هي الأكثر شيوعا لأنها كانت تضم صحفيين من طراز خاص بينهم الراحلان فالح عبد الجبار ومحمد الجزائري، وسؤدد القادري و زهير الجزائري...تعلمت منهم مهارات الفن الصحفي،وكيف تكون صحفيا مقروءا. وعلمتني الصحافة ان اكون ذكيا في اربعة: السرعة والدقة واللياقة والدعابة. ولقد وجد رئيس تحريرها الشاعرالراحل زهير الدجيلي مبتغاه في (قاسم) فخصه باجراء تحقيقات صحفية مع مخرجين وفنانين وجد فيها انها توظف (السخرية) سايكولوجيا بما يجعل من تعنيه يبتسم او يندهش كيف ان فيه(كذا) وهو لا يدري!..الا في حالة واحدة اغضبت صاحبها يوم ظهر مقال ساخر في صفحتها الأولى بعنوان (مكافحة الأمية في الوسط الأذاعي)،فاصدر مدير اذاعة بغداد امرا بانهاء علاقتي باذاعة بغداد حيث كنت اعمل مذيعا فيها، لكنني عدت اليها بعد ان نقله الصحاف الى دائرة السينما والمسرح!
وتعلمت من صحفيين كبار مضمون (السلطة الرابعة) ووظيفة النقد، وان على الصحفي ان يتصف بثلاثة اخرى: عين سحرية ترى ما لا يراه الآخرون،ونباهة في التقاط المخفي و(المستور)،والمصداقية..وأن يشعر بأنه محمي.ففي مقالة ساخرة لنا بمجلة الأذاعة والتلفزيون بعنوان (التلفزيون التربوي..ربي كما خلقتني)،اتصل وزير التربية بمدير عام الأذاعة والتلفزيون (محمد سعيد الصحاف) يخبره بأنه سيحيل كاتب المقال الى المحكمة، فأجابه الصحاف: أقم الدعوى عليّ فانا المسؤول عن المجلة وليس الصحفي.
وفي هذه المجلة (الأذاعة والتلفزيون) تعلمت فنون التحرير والحوار الصحفي،واجريت تحقيقات صحفية مع فنانين عرب:وديع الصافي،نور الشريف، صلاح السعدني،ليلى طاهر،فردوس عبد الحميد..ومخرجين وفنانين عراقيين:محمد القبنجي،مائدة نزهت،وعفيفة اسكندر التي حددت مدة اللقاء من السابعة الى الثامنة عصرا فامتد الى منتصف الليل!، لأنني اعتمدت وصية الصحفي المصري كرم شلبي(اذا ذهبت الى شخصية معروفة، فاذهب لها وانت معبأ!)..واكتشفت في هذا العالم معنى الجمال وفنون الحب وقيمة الكلمة وسلطة الصحفي في قول الحقيقة.
وفي الثمانينيات تحولت الى مجلة (ألف باء) وكان لي فيها عمود اسبوعي بعنوان (نوافذ سيكولوجية) استمر ثلاث سنوات. وحين غادرت الى اليمن (1998) كان لي عمود في جريدة (الجمهورية)اليمنية، ومقالات في جريدة (العرب) اللندنية.
في(11/3/ 2016) نشرت وكالات الأنباء: (بحضور الكثير من البرلمانيين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين المخضرمين،وبمشاركة (22)صحيفة ومجلة،شهد الحفل الجماهيري الذي اقيم على حدائق ابي نؤاس الخميس 3 آذار توزيع افضل ثلاث جوائز،هي جائزة (هادي المهدي) لحرية التعبير،ومنحت للصحافي رحمن غريب، وجائزة (كامل شياع) لثقافة التنوير، وحصل عليها عالم النفس العراقي المعروف د. قاسم حسين صالح، فيما حصل رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة المدى عدنان حسين على جائزة (شمران الياسري) للعمود الصحفي)..وواضح أن أحد الثلاثة ما كان صحفيا، لكنه تقليد جميل ان من لا يحمل هوية نقابة الصحفيين،وله نشاط مميز في عملية التنوير..يستحق التكريم من نقابة الصحفيين.
المدى..تجربة متميزة
كانت المدى هي الجريدة الوحيدة بعد التغيير (2003) التي تتمتع بالجرأة في نقد السلطة والظواهر الاجتماعية، اذكر لها موقفا كاد ان يعرضني للتصفية الجسدية. فحين فتحت بريدي الألكتروني قرأت رسالة كانت بالنص(غدا يظهر لك مقال في المدى..وين تروح منّا دكتور قاسم)، وكان الموضوع بعنوان (الزيارات المليونية تحليل سيكوبولتك- موثق في غوغل)..ما اضطر محرر الصفحة الصديق احمد عبد الحسين (رئيس تحرير الصباح حاليا) ان يكتب موضوعا يندد بالتهديد والتشهير وينتصر لحرية التعبير.
وبدءا من العام (2004) الذي شكّل البداية لتحولات اجتماعية وسيكولوجية جديدة على صعيد الفرد والمجتمع،خصصت (المدى) صفحة كاملة لي بعنوان (الأنسان والمجتمع).ولأن الصفحة كانت تتطلب تغطية ميدانية لتلك التحولات،فأنني استعنت بطلبتي بقسم علم النفس (فارس كمال نظمي، ندى البياتي،وانعام هادي) لرفدها ايضا بتقارير صحفية وحوارات وتقديم مشورات لمشكلات شبيه بتلك التي كنت اقدمها في البرنامج الدرامي (حذار من اليأس).
الصحفي الناجح..متنوع الأهتمامات
الشائع عن الصحافة هو انها متخصصة في نقل الأخبار عن الأحداث التي تهم الناس،لكن الصحفي الناجح هو الذي يستطيع ان يضيف نشاطا يكسبه شهرة جماهيرية، شبيها بتجربة (حذار من اليأس) بجريدة الصباح التي نشرت الحلقة الاولى منها بصفحتين ملونتين في (2009) واستمرت تسع سنوات، يكفي ان نذكر شهادات محرري الصباح بان مبيعات جريدة الصباح تزداد في يوم الخميس بسبب حذار من الياس، وشهادة مدير فرع الكلية الملكية البريطانية في الشرق الاوسط (ا. د. صباح صادق) الذي وصف هذا النشاط الصحفي بانه(يدعو الى الفخر والاعتزاز).
وكانت آخر المجلات التي حظيت بالشهرة هي مجلة (الأسبوعية) وكان لنا فيها مقال ساخر في صفحتها الأخيرة..وللأسف فقد توقفت لأسباب تمويلية، ومقالاتنا المستمرة في جريدة (الزمان) التي تحظى بالشهرة.
الصحفي.. والمبدأ
اذكر هنا ثلاثة مواقف فيها ما يفيد صحفيي الجيل الجديد:
الأول:كان لي عمود ساخر في جريدة (الجمهورية)، فدعاني احد الأيام رئيس التحرير الى مكتبه وقال:
ــ استاذ قاسم..جاء تنبيه من جهة عليا يخص عمودك..ارجوك خفف نقدك الذي توجهه الى الدولة.
وبعد حوار معه،واصراره عى (التخفيف).. شكرته وصافحته مودعا ولم أره من يومها.
الثاني: وجدت ان بعض العبارات يجري حذفها من مقالاتي في صحيفة المدى.. فتوقفت عن الكتابة.وقد وصلتني رسالة من مدير التحرير الأخ (علي حسين) يبلغني فيها تحيات ادارة التحرير ودعوته لي للعودة الى الكتابة..فعدت..ليتجاوز عدد مقالاتي فيها السبعمئة مقالا..لتكون حكايتي مع المدى انموذجا للعلاقة بين هيئة تحرير تعتز بكتابها وكاتب يبادلها الأعتزاز ذاته وان اختلف معها.
والثالث: في العام 1988 تولى وزارة التعليم العالي اكاديمي تشبّع بثقافة فرنسية هو الراحل الدكتور منذر الشاوي،فاصدر جريدة بعنوان (الجامعة) اختار لها ستة صحافيين بينهم الدكتور ياس خضير البياتي رئيس التحرير والدكتور فجر جودة وحسب الله يحيى..وانا مسؤول الصفحة الأخيرة ولي فيها عمود ساخر. وفي احد الأيام اتصلت بي سكرتيرة تدعوني لمقابلة السيد الوزير..دخلت فقال:
ــ استاذ قاسم..اصعب شي بالصحافة هو العمود الساخر..وعمودك جيد،بس يحتاج شويه اتطوره.
فأجبته بكلمة واحدة: وتضمنى؟
ضحك واسند ظهره على كرسيه وقال:
• والله هاي راح تكون بين احتمالين..لو للقمة لو للأمن العامة!
هل انتهت الصحافة الورقية؟
مؤكد انها ستنتهي بعد كذا سنة،لكن الصحفي لن ينتهي،وقد لا يبقى هنالك فرق بين (الصحفي) و (الكاتب)..وقد لا تبقى هناك نقابة باسم (نقابة الصحفيين).. والشاطر هو من يصنع من شخصه (كارزما)..احد شروطها هو ان يكون ذكيا في التقاط ما ورد في هذه التجربة وتجارب اخرى اغزر وانضج لرموز كبيرة في تاريخ الصحافة العراقية(رفائيل بطي،حسين جميل المحامي، عبد الفتاح ابراهيم..) مثالا،ولنماذج استشهدوا من اجل الكلمة(قاسم عبد الأمير عجام، كامل شياع، رياض السراي..) مثالا، ومعاصرين محترفين (علي حسين، أحمد عبد الحسين،زيد الحلي،...) مثالا..وآخرين يحملون اكفانهم على راحات ايديهم في زمن ديمقراطي! السلطة فيه لدولة عميقة تستسهل انتهاك قدسية الحياة!