ما زال الجدل يحتدم في العراق تحديدا ،وخلال السنوات العشر الاخيرة على الاقل، حول قضية (الدين) التي جعلت المجتمع العراقي يرتدي جلبابه بشكل مبالغ فيه ويتلفع بمظاهره بصورة ملفتة ومثيرة للاستغراب تارة وللدهشة تارة اخرى، حتى ان الكثيرين باتوا يطرحون اسئلة حائرة تتمثل في (هل ان المجتمع العراقي متدين؟) ، ومن هذا التساؤل تتمخض اسئلة كثيرة تمتد الى الواقع الذي يعيشه العراق والمتمثل في سيطرة الاسلام السياسي على مقدرات الحكم في العراق .
فجأة.. بعد عام 2003 وجد العراقيون انفسهم يعيشون مرحلة غريبة من مراحل حياتهم وهي الانغماس في الدين ومحاكاة الوانه واشكاله حد المبالغة او الغلو ، وهذا لا يعني ان المجتمع العراقي لم يكن يعيش في هذه المظاهر بل ان هناك بعض منه يمارس ذلك مثلما هنالك بعض يعيش تحت ظلال الاسلام المعتدل فيما هنالك بعض لا يجد نفسه مضطرا الى ان يحابي الاخرين في مسألة التمظهر ومن ذلك ان قضية الحجاب على سبيل المثال كانت تعتبر (حرية شخصية) وربما من بين خمسين امرأة تجد واحدة واثنتين محجبات ، لكنه الان تحول عند الاغلب من النساء الزاما ، ويرى البعض ان سيطرة الاحزاب السياسية المتمثلة بالاسلام السياسي هي السبب وراء ذلك .
من هنا طرحنا اسئلتنا على عدد من المثقفين العراقيين اذا ما كان الدين في حقيقة الامر ثقافة يكتسبها ويتعلمها الانسان ام ارثا ورثه عن ابائه واجداده .
لبوس الدين
فقد اكد الكاتب محمد جبير ان السلطة لبست لبوس الدين لخداع قطاعات واسعة من الشعب العراقي هو اس هذا الخراب ، وقال : أولا : لايوجد لدينا دولة في العراق بالمفهوم الحديث للدولة منذ نيسان 2003 اذ دمر الامريكان في غزوهم للعراق كل مرتكزات وبنى الدولة الأساسية وتركوها حطاما او اشبه بهيكل ايل للسقوط على راس مواطني هذا البلد وهو مايتحقق الان من انهيار كامل لكل مرتكزات الدولة بما فيها المرتكز الاقتصادي بعد انهيار أسعار النفط في السوق العالمية وهو انهيار سياسي قبل ان يكون اقتصادي .
واضاف: من هذه المنطلقات فان إدارة السلطة في العراق في عقد ونيف من قبل بعض الشخصيات التي لبست لبوس الدين لخداع قطاعات واسعة من الشعب العراقي هو اس هذا الخراب لانها تلهث وراء تشكيل امبراطوريتها المادية وليس تطبيق ماجاء به الإسلام
وتابع : ولهذا فان الدين كأرث روحي لايمكن ان يكون فيصلا في انقاذ البلاد من هذه الكارثة التي حلت به واذا اخذناه بمشروعه الثقافي كما يطرح ذلك الإسلام الديمقراطي فانه أيضا مشروع اثبت فشله في العراق لانه رؤية أمريكية أراد البعض تسويقها داخل المجتمع العراقي وفشل بذلك لانه لم يكن مقتنعا بها ولم يجد الصدى لقبول هذه الأفكار لان الديمقراطية التي جاءت على انقاض الشمولية والديكتاتورية هي ديمقراطية مسلفنة سعت المواد الحافظة على بقاءها أطول فترة من حيث الجاهزية الا انها فسدت حين تعرضت للهواء العراقي لان من كان قائما على تنفيذ المشروع لاينتمي له أصلا وجاء لينتقم من العراقيين ويجلهم ويسرقهم انتقاما لنفسه
الدين ثقافة ولكن
اما الكاتب مهدي العامري فقد اكد ان الدين ثقافة يلجأ اليها الانسان متى ما احتاجه، وقال : التيارات اﻻسلامية تعتبر سبب بقاؤها ﻻنها تعتمد الدين ارثا لعملها وبسبب التخلف الحاصل في المجتمعات العربية فان رجال الدين لهم من المكانة بحيث يسيرون المجتمع يمينا وشماﻻ لتدخلهم المباشر في جميع مفاصل الحياة السياسية واﻻقتصادية تاركين مهمة الدين لوقت اﻻزمات.
واضاف: انا ضد تدريس الدين في المدارس والجامعات ﻻن الدين ثقافة يلجأ اليه الانسان متى ما احتاجه لغرض التعرف على امور معينة هو بحاجة اليها.
الدين ثقافة مجتمعية شعبية جماهيرية واسعة
من جهته قال الاديب رضا المحمداوي :من المؤكد أن الدين كمنظومة قيمية وكقواعد سلوك وتصرف اجتماعية واخلاقية ، وكذلك بوصفه بوابة معرفية ليس إرثاً جامداً لا حياة فيه ، ولو كان كذلك لانتهى منذ قرون ،وانا هنا اتحدثُ عن الدين بشكل عام وليس عن الدين الاسلامي على وجه التحديد ،بل يمتد هذا الوصف حتى الى الاديان الارضية التي انشاها الانسان بنفسهِ .
واضاف: مقابل ذلك يمثّل الدين محمولاً ثقافياً ثقيلاً يمتد باطرافه وتأثيراته على كامل الجسد الاجتماعي ويترك آثاره واضحةً على حركة ذلك الجسد .
وتابع : غالباً ما شكّلَ الدين لدينا بعمقهِ الثقافي وامتداته الواسعة وإلتباس العادات والتقاليد معه وما يرافقه من طقوس وشعائر دينية متعددة ومتنوعة ...غالباً ما شكل ثقافة مجتمعية كاسحة وذات طابع مهيمن ليس من السهل الوقوف بوجههِ وتشذيب ما علق به من شوائب ؛ من هنا يصبح الدين ثقافة مجتمعية شعبية جماهيرية واسعة تترك آثارها واضحةً على حركة ذلك المجتمع وهو يعيش مخاضه الحضاري ويوغل في مساره التاريخي الذي يحياه كل يوم .
الدين فكرة نتوارثها عن ابائنا
اما رفيف الفارس، الشاعرة والكاتبة والناشطة المدنية ، فقد اكدت ان في مجتمعاتنا العربية عامة ومجتمعنا العراقي, نسينا فكرة الاله في خضم التعدد المذهبي وقالت : قبل ان نسترسل في ابعاد هذا الموضوع الحساس والدقيق والذي يعد من اهم المواضيع التي تتمحور حولها الكثير من المنعطفات الاجتماعية وبالتالي السياسية يجب ان نثبت هنا امرين مهمين : الاول هو ان السياسة هي نتاج المجتمع. والثاني هو ان المجتمع وضع الكثير من الاعراف والتقاليد والتي نسبها الى الدين ليمدها بقوة التأثير المطلوبة لإرضاخ الفرد داخل المجتمع.
واضافت : ان الدين بمفهومه المجرد الحديث هو التوحيد, حيث ان في العصور القديمة جدا من عمر الانسان ايضا كانت هناك ديانات وعبادات مختلفة وكان لكل منها طقوسه ومؤيديه, وقد اضمحلت بتطور الانسان العملي والتركيز على فكرة الاله الواحد بدلا من تعدد الاله حيث ان التقرب الى الاله الواحد ايسر واقل كلفة مما كانت تتجشمه المجتمعات القديمة من تقربها للعديد من الالهة حيث كان لكل اله دار ومعبد وكهنة وطقوس .
وأوضحت : في وقتنا العصيب الحالي وفي مجتمعاتنا العربية عامة ومجتمعنا العراقي, نسينا فكرة الاله في خضم التعدد المذهبي والذي اصبح فيه الدين هو نصرة مجموعة من الناس والتعصب لهم حتى لو تكلف الانسان حياته نتيجة هذا التعصب وقد غذى المجتمع هذه الفكرة الوثنية على مر السنين كأنه بهذا يعاني فترة نكوص وتراجع في التطور الفكري حتى عن المجتمعات السحيقة ( قديما كان تعدد الالهة وفي الوقت الحاضر تعدد البشر).
وتابعت : وعليه فأن المجتمع هو من يحدد المسار الديني للفرد وبهذا يكون الدين فكرة نتوارثها عن ابائنا حتى وان كانت الفكرة لا تنطبق على قولنا او قناعاتنا, فانتفت صفة القدسية , بما انطوت عليه عبر السنوات على الكثير من اضافات المجتمع وفق ما يضمن أسر الافراد ضمن حدود معينة مرسومة لهم لا يمت الكثير منها الى التعاليم الاساسية لكل الاديان على تعددها وهي الحق والمساواة والرحمة وعدم القتل وعدم السرقة واحترام جميع الكائنات وهي ان تعمقنا في معانيها البديهية والبسيطة نجدها تشكل قيما اخلاقيةً لاي مجتمع مهما كانت عقيدته, والتي لا نجدها الان في مجتمعنا بالقدر الذي يحقق الامان وكرامة الانسان.
واستطردت : وفي حال تحول الدين الى تصرف ظاهري خالي من تطبيق روح "التعاليم السماوية " او حتى المفاهيم الاخلاقية ويكون الغرض منه هوالتقوقع على الذات والتعصب لملّة او جماعة معينة, فسينتج عنه ازدراء الاخر وبالتي تشظي المجتمع.والنتيجة الحتمية لهذا التعصب وهذا التقوقع هو سلوك قسري يفرض على الفرد خوفا متعمقا للدرجة التي يلغي فيها اي قناعة مخالفة لما يورثه له ابائه من تعاليم مذهبية.
الدين ارث مقدس
اما الاديب طلال الغوار فقد اكد كلما ابتعد الدين عن السياسة كلما كان بناء الدولة سليما ، وقال : إذا ما عرفنا الدين بأنه نصوص تحمل تعاليما وقيما معينة ومجسدة في ممارسة طقوس وشعائر وتقاليد وأفعال اجتماعية ونعرف الثقافة كذلك بأنها مجموعة قيم وتقاليد وآداب وفن ورؤى وتصورات ترسم معالم الحياة وتمنحها الشكل المعبر عنها, فأننا نصل إلى أن الدين يشكل جزءا من الثقافة ويحدد رؤية الإنسان إلى الحياة والكون والمجتمع بل يكون أحيانا ذات فعالية قويه فيها وأحيانا تنحسر هذه الفعالية في الخطاب الثقافي والرؤية العامة تبعا لطبيعة المجتمع والنظم السياسية والأحداث التي يمر بها ,لكن الفارق بينهما أن الدين نمط من النصوص والقيم والشعائر فيه من الثبوتية المغلقة مما لا يسمح بالتحول في حين أن الثقافة فيها من الثابت ومن المتحول وخاضعة لصيرورات متتالية تستجيب للمتغير الحياتي ومعطياته .
واضاف: ومن هنا نجد أن الدين ارث مقدس فيه الكثير من المسلمات الموروثة لا يمكن المساس بها وحتى الإيمان الديني يكاد أن يكون موروثا وغير خاضع لمحاكمات العقل بسبب هذه المسلمات وهو يندرج أخيرا ضمن ثقافة الذاكرة المتجذّرة في النفس.
الدين إرث وثقافة في آن معا
الى ذلك اكد الاديب علي حسن الفواز ارث الخطاب الديني يواجه تحديات كبرى، وقال :الدين إرث وثقافة في آن معا، لأن الاديان نشأت في المدن، واسهمت الى حد كبير في تقعيد وتنظيم القيم الاخلاقية والثقافية للمجتمعات، ومع تعقد نظام المدينة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والحقوقي تشترط الحاجة الى وجود مؤسسة الدولة التي تحكمها قيم وقوانين وضعية، لكن العمق الأخلاقي للدين يبقى جوهرا لتأطير تلك القيم وأنسنتها وقبولها بوصفها قيما حمائية للمجتمع والأفراد، وضمن السياق الأخلاقي الذي يشرعنه الدين.
واضاف: واحسب أن الحفاظ على الارث الديني يرتبط أساسا بمعرفة جوهره الثقافي، مثلما يرتبط بنجاح الدولة في حماية مواطنيها من مظاهر الفقر والجهل والخرافات والفقر والظلم والاستبداد والعنف والكراهية، وأن فشل الدولة في الحماية يعني تمثل إرث القيم الدينية لوحدها لمواجهة الظلم الوضعي،يستدعي الكثير من المراجعةن والحوار، وتنشيط المؤسسات التعليمية والخدماتية.. كما أن وجود النخب الثقافية والدينية في اطار عمل مؤسسي ونظم سيكون فاعلا ومؤثرا في التعبير عن الصورة الانسانية المتعالية للدين ولخطابه وللتفقه باصوله واحكامه، وبما يهمش ظاهرة التدين الشعبي، أو التدين الأصولي المتطرف والذي سيكون عاملا في انتاج مظاهر العنف والتكفير ..
وتابع : ارث الخطاب الديني يواجه تحديات كبرى، فبقدر ما نجد الارث العنفي للأصوليات التي قادتها تيارات متطرفة بدءا من اطروحات الماوردي عن الحاكمية وكذلك اطروحات حسن البنا وسيد قطب وصولا الى التيارات التكفيرية المعاصرة، هناك أيضا ارث للتنوير والتمدين والذي قاده اعلام كبار مثل السيد خير الدين التونسي ومحمد عبده وجمال الدين الافغاني والحبوبي والحلي وكاشف الغطاء ومحمود رضا المظفر..
ثقافة دائرية
من جانبه اوضح الاديب مروان عادل حمزة ان ارثنا الديني ثقافة ثقافة دائرية نعيش فيها مدافعين عنها ومجترين كلمات أجدادنا على انها نهاية الفكر وخلاصة التفكير.، وقال : المسألة هي اننا لا نستطيع ان نفصل بين السياسة والدين الا دكتاتوريا ! بمعنى ان يحكمنا من يستطيع ان يضرب كل شيء بعرض الحائط فاما تجد ثغرة لان ندخل قلبه لا ظنينبا ولا سياسيا ولا اجتماعيا ولا باية حجة الا من خلال طاعته ومحبته المدعاة لاننا لم نفهم بعد تفسبر الحياة ووجودنا فيها الا دينيا !! لذلك صار ارثنا الديني ثقافة ثقافة دائرية نعيش فيها مدافعين عنها ومجترين كلمات أجدادنا على انها نهاية الفكر وخلاصة التفكير. .ثقافة دارية كل ماهو خارجها يعتبر خارجا عن ملتها داخلا في قائمة اعدائها التي لانهاية لها !! فلا نجد فيه ثغرة لأن ندخل قلبه لا دينيا...
واضاف: حاربنا الدكتاتوية دينيا ،طبقنا الديمقراطية دينيا ،عارضنا الديمقراطية دينيا، قتلنا بعضنا دينيا، تظاهرنا دينيا ، فسرنا التظاهر دينيا وفهمنا الاصلاح دينيا ، مامن مظاهرة او مسيرة هنا او هناك الا ونصب فيها منبر لعمامة لا اعرف وكأن لا فكر عندنا الا بالحمل القرانية والنبوية والامامية نفسها !!!
لا ثقافة ولا ارثا
مسك ختام الاراء كان مع الكاتب باسم القطراني الذي قال : أنا أعتقد بأن الدين ليس ثقافة ولا إرثا بل هو حقيقة وجدت منذ نشأة الخليقة لايمكن تغافلها أو تجاهلها لأن ذلك من شأنه أن يمثل خللا واضحا في العلاقة بين الحقائق الثابته والمتغيرة .
واضاف: الدين له وظائف تحدد علاقة الأنسان بما حوله مع الأخذ بنظر الأعتبار حرية الأفراد في إعتناقه من عدمه وهذه بالتحديد الفجوة التي نشأ منها الأختلاف بين المتشددين والمعتدلين في وجهة نظر كل منهما الى وظيفة الدين .