للهند موقع أثير في نفوس العرب منذ القِدم، وعلى الأخص لدى سكان منطقة الخليج والجزيرة والعراق، ولا أظنني بحاجة لتذكير القراء بأشكال العلاقات العريقة المتعددة التي تربط شعوب هذه المنطقة من العالم العربي بالهند في شتى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والضاربة بجذورها الحضارية في أعماق التاريخ. والهند أيضاً من الروافد الحضارية العالمية القديمة التي نهلت منها حضارتنا العربية -الإسلامية، بل ومعظم الحضارات العالمية الكبرى المهمة.
ولقد تفتحت مدارك أبناء جيلي على تاريخ الهند السياسي الحديث، وعرفنا كيف استلهمت طريقها النضالي الخاص للتحرر من ربقة الاستعمار البريطاني، بقيادة زعيمها الأسطوري المهاتما غاندي، بالوسائل السلمية، وهو الطريق الذي نجحت فيها وتكلل بالنصر 1947، ثم اختطت الهند طريقها لبناء الدولة الحديثة من خلال الحكم الديمقراطي القائم على التعددية السياسية، وفصل السلطات الثلاث، و ضمان استقلالية القضاء، والمواطنة الواحدة في المساواة بين المواطنين كافة، أياً تكن دياناتهم وطوائفهم وأعراقهم، وكذلك ضمان الحريات العامة، سيما حرية الصحافة وحق التظاهر.
وهذا الأسلوب في الحكم هو الذي حفظ للهند سلمها الاجتماعي لعقود طويلة بعد الاستقلال، لا بل كان حكمها الديمقراطي مبعث إعجاب العالم، كواحدة من دول العالم الثالث التي يقطنها أوسع موزاييك في العالم من التعدديات العرقية والدينية والمذهبية واللغوية والحزبية. وكان لحكم حزب المؤتمر الوطني-الطويل نسبياً في الحكم- بقيادة جواهر لال نهرو دور في تعزيز ديمقراطية وعلمانية الدولة، مما ساعد على تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة بين فئات الشعب، وبفضل ديمقراطية وعلمانية الدولة أمكن تفادي تفجر التناقضات الطبقية الخطيرة، ومن ثم قطع الطريق على تجار تأجيج النزعات الدينية والقومية الذين برعوا بعدئذ لتحويل تلك التناقضات الطبقية إلى صراعات عرقية أو دينية.
وكان الرمز الوطني الكبير نهرو يُنظر إليه أيضاً ليس باعتباره واحداً من أبطال الاستقلال فحسب، بل وواحداً من الرموز الكبرى الراعية لمؤتمر باندونج التاريخي 1955 الذي وضع اللبنة الأولى لسياسة عدم الانحياز بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي الغربي التي تبنتها الدول حديثة الاستقلال، وهي سياسة كانت معادية للأحلاف الدولية، ومنعت -إلى حد ما- حلف الأطلسي من جر هذه الدول الفتية إلى تحت مظلته الإمبريالية. لكن بعد وفاة لال نهرو آل الحكم في زعامة الحزب والدولة لابنته أنديرا غاندي والتي اكتسبت شعبية معقولة لسنوات، لكن سرعان ما أخذت هذه الشعبية تضمحل تدريجيا؛ لأخطاء قاتلة في تفهم الثقافة الشعبية السائدة، وبخاصة عندما أتبعت سياسة فرضها التعقيم الإجباري على المواطنين بمختلف فئاتهم، وهو ما أفضى لاحقاً إلى تنامي التيارات اليمينية الشعبوية ، وخاصة الهندوسية منها، والتي عرفت كيف تستغل تلك الأخطاء لتحقيق شعبيتها، حتى وصلت ذروة قوة هذه التيارات خلال العقدين الماضيين، ثم تتوجت بفوز حزب "بهاراتيا جاناتا" اليميني الشعبوي الهندوسي بزعامة رئيس الوزراء الحالي ناريندرا دامودارداس مودي ووصوله إلى السلطة2014،
وبدت سبحة النسيج الاجتماعي بخرزاتها الجميلة متعددة الألوان على وشك الانفراط؛ جراء سياسة الحزب المنافية لحقوق الأقليات، وعلى الأخص تجاه الأقلية المسلمة حيث تفاقمت الاعتداءات الوحشية عليهم من قِبل العنصريين الهندوس. وكان لإقدام الحكومة الحالية على تعديل قانون الجنسية الذي يمنح حق التجنيس للأقليات الدينية الوافدة من باكستان وبنغلاديش وأفغانستان، ما عدا المسلمين من هذه الدول، أعطى مؤشراً خطيراً على تبنيها سياسات منافية لمبدأ المواطنة الواحدة دون تفرقة أو تمييز في التشريعات، وهذا ما شجع بدوره العنصريين الهندوس على التمادي في استفزازاتهم واعتداءاتهم على المسلمين الهنود الآمنين في بيوتهم وفي الأسواق وعلى مساجدهم. وكان واحداً من أخطر الاعتداءات تلك التي جرت في دلهي العام الماضي وراح ضحيتها أكثر من 50 مواطنا جلهم من المسلمين،
ومنذاك استمر حثيثاً مسلسل هذه الاعتداءات التي يقوم متطرفون هندوس دون أن تحرك الحكومة ساكنا، اللهم إلا تصريحات أحيانا خجولة لطمأنة المسلمين. ومؤخراً أمرت معلمة هندوسية في "أوتار براديش" جميع طلبة فصلها الأطفال بأن يتناوبوا على صفع زميل مسلم لهم بكل قوة؛ لأنه لم يحل جدول الضرب ففعلوا ذلك! واستنكرت منظمات حقوق الإنسان العالمية هذه البشاعة التي هزت الضمير العالمي، فيما بررت المعلمة توكيل تلاميذها لمعاقبته بدلاً منها لكونها مقعدة! أكثر من ذلك قامت الرئيسة الهندية دروبادي مورمو، وبمناسبة احتضان الهند قمة العشرين بتوجيه دعوات لحضور مأدبة عشاء إلى رؤوس الوفود والضيوف الذين سيحضرون المؤتمر باسم" رئيسة بهارات"، ومع أن هذا الاسم هو فعلاً مسمى أرض الهند التاريخية القديم، ومستمد أيضاً من اللغة السنسكريتية القديمة، لكن هذا الأجراء غير خافي الدلالات فيما يرمي إليه الحزب الحاكم من تأكيد وشحن النزعة القومية الهندوسية لدى الجماهير الهندوسية وهي السياسة التي يتبناها الحزب الشعبوي القومي الحاكم. ولعل واحداً من المثالب الخطيرة المزمنة التي تهدد النظام الديمقراطي، ويهدد بتقويضه وزعزعة الاستقرار السياسي في أي دولة تتبناه، عدم وجود آليات صارمة تمنع الأحزاب الشعبوية ذات الشعارات العنصرية من حق الترشح للانتخابات ما يسمح لها الوصول إلى البرلمان والوصول إلى السلطة.
وإذا كان هذا ينطبق على الدول الديمقراطية العريقة الغربية، فمن باب أولى أن ينطبق على دول الديمقراطيات الفتية كما في العالم الثالث. وصفوة القول إنه مالم تأتلف كل القوى الهندية التي يعز عليها نظامها الديمقراطي الحالي المهدد بالزوال والذي قدمت في سبيله تضحيات هائلة، فإنه لا يُستبعد أن يؤول هذا النظام إلى نظام شبيه بالنظام النازي الألماني، والذي وصل هو الآخر بالمناسبة إلى السلطة عن طريق صناديق الانتخابات! وعندها لربما تنزلق البلاد إلى هاوية سحيقة غير مأمونة العواقب، لتغدو بذلك الهند ليست الهند التي عرفناها وتباهينا بديمقراطيتها العتيدة مقارنة بجاراتها ذات الأنظمة المستبدة التي تسببت في الصراعات والحروب الداخلية المدمرة في بلدانها!