تــوطئــة
الشعر العراقي له تاريخ يمتد لقرون،وتذكر في مصادر إنخيدوانا أو إنهدوانا (2285-2250 ق م) وهي أميرة أكدية من أهل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد،والكاهنة الأعلى للإله نانا إلهة القمر عند السومريين في مدينة أور،وأنها أقدم شاعرة معروفة تم تسجيل اسمها!.وقد عرف العراق بـ"بلد الشعر والشعراء" أو "بلد الشعراء" عند الأدباء العرب.
واستمر الشعر في صعود لاسيما في العهد العباسي حيث دعمه الخلفاء والأمراء واجزلوا العطاء والهبات للشعراء،ليصبح هو الهوية للثقافة العربية وصورة ذلك العصر. ومع تعرض العراق عبر تاريخه لمحن،أقساها ما حدث لبغداد على يد هولاكو(1258)، ورمى الكتب وبينها دواوين الشعر في دجلة،فأن العراق بقي موطن الشعر والشعراء.
هذه المقالة تهدف الى الأجابة عن هذا السؤال:
لماذا.. العراق موطن الشعر والشعراء؟
سيفاجأ الشعراء ونقاد الشعر أن الأسباب سيكولوجية خالصة..ولكن قبلها،دعونا نستطلع آراء عدد من المثقفين عن اسباب تفرّد العراق بهذه الظاهرة.
ما الشعر؟
اطلعت على الكثير من تعاريف الشعر،فوجدت أنهم يصفونه فنيا ويغفلونه نفسيا.اليكم اشهر ما قيل عنه:
· ابن منظور:الشّعر مَنظومُ القول غلب عليه؛ لشرفه بالوزن والقافية،وإن كان كلّ عَلَم شعراً".
· الجرجاني: "إن الشعر علم من علوم العرب ويشترك فيه الطبع والرواية والذكاء".
· بن طباطبا: " هو الكلام المنظوم البائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ونظمه معلوم محدود".
· أما ابن خلدون فيقول عن الشعر بأنه:"الكلام المبني على الاستعارة والوصف المفصّل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده".
ما يعني ان معظم من عرفوا الشعر من القدماء والمحدثين، ركزوا على الجانب الفني (القافية، الوزن،....) واغفلوا الجانب السيكولوجي فيه.
الشعر..سيكولوجيا
الشعر، برأينا، حقيقة سيكولوجة مطلقة،لأنه انفعالات،والانفعالات لها فص موجود في الدماغ مسؤول عن الفرح،الحزن،الغضب،الحب،...وأن كل انفعال له هرمون خاص يزداد حين يستثار. فالشعور بالفرح،مثالا،مرتبط بهرمون "الدوبامين" الذي يُنشط المخ ليفرز "السيروتين والأندورفين والاندوكانابى المضادة للضجر". وحين تقع في الحب يفرز "الأدرينالين والدوبامين" اللذين يزيدان شعورك بالسعادة. وعند الغضب تزداد ضربات القلب ويرتفع التنفس وتنقبض العضلات،لترسل إشارات لإفراز "الأدرنالين والكورتيزول والتيستوستيرون".
ولأن الشاعر لا يقول شعرا مؤثرا الا حين يستثار انفعاليا،فأن مقولتنا..(الشعر حقيقة سيكولوجية مطلقة)..تكون هي الأصدق في وصف حقيقة الشعر.
شعراء ومثقفون.. يؤيدون
اول الشعراء الذي يؤيد مقولتنا هي نازك الملائكة باصدارها كتاب(سيكولوجية الشعر ومقالات اخرى 1979). ومن ابرز الأكاديميين،الدكتور حاتم الجواهري الذي يرى ان للشعر عملية سيكولوجية محددة،فهو لا يكتب الا عند حالة من التوحّد والتشّبع بروح ما (يقصد انفعال ما).فيما يرى الدكتور فالح نصيف الكيلاني ان الشاعر يتخذ موقفا واحدا من الحياة،اما ان يكون منطلقا في رحابها او منطويا على نفسه..اما متفائل فرح يملأ قلبه السرور والانشراح،او متشائم مفعم قلبه بالالم والحسرة والحزن.
وترى الدكتورة لطفية الاعكل أن الغموض خاصية الشعر العربي قديما وحديثا..وتقصد ان الغموض يثير في المتلقي دافعا سيكولوجيا لكشف حقيقته. يشاركها الرأي الكاتب عز الدين اسماعيل في كتابه (الشعر العربي المعاصر...) الذي يرى ان جمالية القصيدة المعاصرة مرتبطة بالغموض،وأن (الرمز) في القصيدة يفعل ذات الفعل السيكولوجي الذي يحدثه في المتلقي. وتعدّ قصيدة (انشودة المطر) لبدر شاكر السياب من اجمل القصائد التي وظّف فيها الرمز بشكل مكثف من صور شعرية فنية مليئة بغموض فني سيكولوجي، ما يثير لدى المتلقي أمنية اشراقة الحرية على الوطن..لنخلص الى ان الغموض والرمز يعبران عن معاناة الشاعر واغترابه الذي يعيش في وطن مشحون بضغوط نفسية وأزمات وتوالي خيبات.
استطلاع رأي
في (7 ايلول 2023) توجهنا باستطلاع كان نصه:
(العراق موطن الشعر والشعراء. شو السبب: جينات، وراثة، احداث مفجعة، قساوة انظمة حكم، حب جنون...؟ )
اليكم نماذج من بعض الأجابات:
سيد وحيد البوهلاله: تعاقب انطمة الحكم واغلبها ذات طابع حرمان وظلم وسلب حق المواطن جعلت الفرد العراقي بحاجة الي اهتمام لم يجده ابدا،فنتج عن هذه المعاناة عظماء في الادب والشعر والسياسه وكذلك طبقه مميزه من الفنانيين جسدوا مراحل للشعب العراقي عبر تحدي الصعاب والحرمان.
د.عقيل مهدي يوسف: الشعر يحقق..التطهير..في كل لغات العالم..ولكل ماتفضلت به دكتورنا من اسباب..تتعلق بالبيئة الاجتماعية والسلطة والسايكولوجية الذاتية والعامة.
عبد العزيز ججو: العراق من الشعوب العاطفية قياساً لخمسين شعبا عايشتها. شعب مر بمراحل جعلته يحلم كثيراً ويحصل على القليل من الحكام القساة،وبالتالي عندما تتوفر له فرصة فانه يفرغ ما عنده من غضب على من هو ادنى منه وبقساوة،لانه يعتقد بان ذلك من حقه وهو الاسلوب الصحيح..واحد اشكال التعبير عن ذلك وجدانياً هو الشعر والغناء.
علي نعمة: ربما طبيعة العراق تنوع أرضه وانهاره َوالمروج الخضراء وتقلب المناخ إضافة إلى كثرة الحروب الفواجع، جعلت من العراقي إنسانا رقيقا شفافا مرهف الحس عميق الحب شديد الحزن.
مهدي نعيم الحلفي: الظروف الي يعيشها المواطن العراقي تجعل منه شاعرا وفيلسوفًا.
د. حميد الكفائي: لكل الاسباب التي ذكرتها دكتور ويضاف اليها..انظمة حكم فاشلة جعلته يعاني من القهر والظلم والعوز المادي.
فاضل عبود: العراق ومنذ فجر التاريخ مطمع للجيران فارتبط تاريخه بالاحتلالات والغزوات وهذا يتطلب من اهله مقاومة الغزاة فكان الشعر احد وسائل رفع المعنويات وصولا الى استخدام الهوسات (الطوب احسن لو مكواري) مثالا.
د. صالح الطائي: للبيئة اثر كبيرعلى انماط السلوك البشري،لاسيما ما يتحصل عليه من خلال المثاقفة مع الاخرين. ولان مجمل حياتنا تحيط بها الفجائع والالم فان الغناء يعد مصدرا للتنفيس، والشعر هو الغذاء الروحي للغناء،فكثر عندنا شعر التفجع وغناء الآه والحسرة، فضلا عن موروثنا القديم يوم كانت بغداد قبلة شعراء الدنيا.
استنتاجات
اوضحت نتائج الأستطلاع ان كل الأسباب المذكورة فيه كانت وراء ان يكون العراق موطن الشعر والشاعر،واختلفوا في حجم دور كل سبب،وأضافوا اسبابا اخرى مهمة،لكن معظمهم اتفقوا على أن طبيعة الأحداث التي عاشها العراقيون عبر تاريخهم هي السبب الرئيس:(شعور بالظلم، بالقهر، بالحرمان، بالعوز،بالتذمر.كثرة الحروب وما نجم عنها من فواجع وفقدان أحبة.انظمة حكم فاشلة سلبت حق المواطن...).
الأغتراب..السبب الرئيس
ما تفضل به المستجيبون..صحيح. ومع ان جميع الأسباب..سيكولوجية، الا اننا نرى أن السبب السيكولوجي الرئيس هو الأغتراب..الذي شغل اهتمام فلاسفة (هيجل،ماركس،روسو،سارتر..) وعلماء نفس بدءا من فرويد الى المعاصرين.
ومع تعدد نظريات الأغتراب(نعم نظريات!) فأننا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل عدد من الاسباب نوجز اهمها بالآتي:
1.العجز:ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره،لأنه يتقرر بعوامل خارجيةاهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.
2.فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.
3.فقدان المعايير:ويعني نقص الاسهام في العوامل الاجتماعية المحددة للسلوك المشترك.
4.التنافر الحضاري:ويعني الاحساس بالانسلاخ عن القيم الاساسية للمجتمع.
5.العزلة الاجتماعية:وتعني الاحساس بالوحدة والشعور بالنبذ.
6.الاغتراب النفسي:ويعدّ اصعب حالات الاغتراب تعريفا ويمكن وصفه بانه ادراك الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته(أنا منو؟!).
ونضيف لها (الفقر)..في مقولة سبق بها الامام علي علماء النفس:(الفقر في الوطن غربة)..لاسيما اذا كنت تعيش فقيرا في اغنى بلد في العالم!غير ان هنالك نوعا آخر من الاغتراب هو الاغتراب السياسي،ويعني:الشعور بخيبة الأمل والعجز والنفور من العمل السياسي،واعتقاده بأن العملية السياسية بكاملها صارت لا معنى لها في وطنه..فيغادره في حالة صراع سيكولوجي، بين أن يكون طاردا للوطن او مطرودا منه،وبين من يعدّ الرحيل عن الوطن مسألة مشروعة وبين من يعدّه قيمة لا اخلاقية لأنه اناني..يهرب بنفسه ويترك الأهل والأحبة للعذابات التي هرب منها،وبين من راح يمنّي النفس بشمّ هواء الحرية في الغربة وبين من اختنق بهواء المنفى.
استنتاج ختامي
ان السر الذي يكشف صدق مقولة (العراق..موطن الشعر والشاعر) يكمن في ان قراءتنا لتاريخ الشعر في العراق اوصلتنا الى مقولة جديدة هي ان (الشعر..حقيقة سيكولوجية مطلقة) وانها تتمتع بالمصداقية وتشكل اضافة عراقية في نقد الشعر..أم أن للشعراء رأيا آخر؟